“كان يمشي بقدميه المشقّقتين، وقمبازه الوسخ المقدود، وشعره الطويل المبعثر، من الحافة إلى القناة، ومن القناة إلى الحافة. يلتقط عن الأرض ويزاحم القطط والكلاب على الأقذار، والطريق مزروعة عن الجانبين بعشرات الجياع أمثاله، شيوخاً ونساءً وأطفالاً، بعضهم يستطيع المشي، والأكثرون انطرحوا لا يملكون إلا الأنين… ووقع أحدهم على وجهه، فتداركته جارة أرملة وأدخلته إلى بيتها، لم أدرِ ما حلّ به ولكني سمعت من غد نساء يتوشوشن بأنّ أم حنا أخذت بندقيته وإحرامه برغيفين وصحن عدس”.
إقرأ أيضاً: لبنان وطن غير نهائي؟
بهذه الكلمات يوصّف الكاتب توفيق يوسف عواد بعض مشاهد مجاعة لبنان الكبرى (1915-1918)، في روايته “الرغيف”، التي خصّصها لتوثيق حوادث الحرب العالمية الأولى، يوم حاصر لبنان جمال باشا، قائد الجيش الرابع للسلطنة العثمانية ومنع دخول المحاصيل إلى جبل لبنان من المناطق المجاورة، ما أدّى إلى موت نصف سكان متصرفية جبل لبنان آنذاك، مع اجتياح أسراب الجراد للمنطقة أيضاً والتهام ما تبقّى من محاصيل.
ما أشبه الماضي باليوم، لدرجة يرى فيها بعض أهل الاختصاص أنه أقرب للتحقّق من جديد، أقرب إلينا من وجبة الطعام المقبلة ربما، التي ما عاد يستطيع إليها سبيلاً عدد ليس بقليل من اللبنانيين. فهل قرأ الحكام الجدد هذه الرواية؟ وماذا يعرفون عن المجاعة الكبرى؟ وماذا فعلوا كي لا نصل، بعد أكثر من 100 عام، إلى مذبح الجوع نفسه؟
هل فعلاً لبنان مهدّد بأمنه الغذائي؟
“بالتأكيد لبنان مهدّد بأمنه الغذائي” يجيب الأستاذ في كلية الزراعة والعلوم الغذائية في الجامعة الأميركية في بيروت رامي زريق. ويوضح مفهوم الأمن الغذائي بأنّه قدرة كلّ إنسان في كلّ وقت على أن يحصل على نوعية الغذاء وكميته التي يحتاجها من دون خوف من أن يفتقد هذه القدرة غداً. وهذا الشعور هو تحديداً ما نعيشه في لبنان اليوم. إذ إنّنا لا نتمتع بكافة ركائز الأمن الغذائي الأربعة، وهي: وجود الغذاء، القدرة على الحصول على الغذاء، استعمال الغذاء (نوعيته)، واستمرارية وجوده.
لا ينفي الدكتور زريق احتمال توسّع رقعة الجوع بنوعَيه الكمي والنوعي في حال استمرار الأزمات
“وجود كميات كافية من الغذاء في منطقة ما، إلى هذه اللحظة، لا يعني أنّ الجميع يستطيعون الحصول على هذا الغذاء، ولا يعني أنّ النوعية التي يحصل عليها البعض هي نوعية غذاء سليم. ولا يعني أنّ المواطن الذي استطاع إطعام أطفاله اليوم سيتمكّن من فعل ذلك يوم غد”، يؤكد زريق، وهو مدير برنامج الأمن الغذائي في الجامعة أيضاً. ويرى في ذلك تداعيات خطيرة لأن تقديم المواطنين لتنازلات عديدة في حقهم الغذائي ونوعيته، سيتسبّب لهم بأمرض وأذية. وحتى لو استطاعوا أن يأتوا بسعرات حرارية كافية لكن من دون حالة تغذية سليمة، فهذا يعني أنهم بحالة جوع نوعية وليست حالة جوع كمية، وهي قاتلة مثلها مثل الجوع الكمي. علماً أنّ هناك مجتمعات وفئات فقيرة في لبنان كانت جائعة من قبل ولا تزال فقيرة حتى اليوم.
لا ينفي الدكتور زريق احتمال توسّع رقعة الجوع بنوعَيه الكمي والنوعي في حال استمرار الأزمات. أما المجاعة، فهي درجة وحالة تحتاج لظروف معيّنة كي تُعلَن. وهي درجة قصوى من فقدان الأمن الغذائي. ويستبعِد زريق حصولها إلا إذ تغيرت الأمور ووصلنا إلى حصار وحرب ووباء وانهيار شامل أكبر. وهي أمور لا يستطيع أحد التكهّن بحصولها من عدمه.
الحلّ يبدأ من لحظة اعتبار الغذاء “حقّاً لكلّ إنسان، وهذا ما لا يلحظه دستور اقتصادنا ودستور مقاربتنا للحياة”، يقول زريق، ويضيف: “عندما يصبح الغذاء السليم حقّاَ تصبح جميع إمكاناتنا موجهة إلى هذا الاتجاه إن كانت سياسات الإنتاج المحلي، الاستيراد، أو التغذية”. ولتفادي السيناريوهات الأسوأ، فعلى المواطن أن يفرض واقعاً جديداً في تعامل الدولة مع الغذاء. والقيّمون على الغذاء عليهم تسهيل وصول كل مواطن، مادياً ومعنوياً، إلى غذاء سليم، “وإلا فإنّ الجوع سيتفاقم تحت ضغوطات مختلفة”.
تمنّى حطب أن يتحرّك المسؤولون قبل الوصول إلى مئات حالات الانتحار لأن كلّ الكلام الوعظي المجبول بكلمات مثل “سنقدر وسنتمكّن”، هو “أشبه بلعبة ترفيهية إلكترونية، ثمنها أرواح البشر وأمنهم النفسي والغذائي
وعن التداعيات الاجتماعية لهذا الواقع الغذائي، يعرّف زهير حطب، الباحث المتخصّص في علم اجتماع الأسرة، مفهوم الأمن الغذائي بأنه جزء من المواجهة، سواء بين قوتَين إقليميتين أو محليتين أو عالميتين، وهو الطاقة التي تؤكد وجود إمكانية لاستمرار النزاع أو لحسمه لصالح جهة معينة. ويميز بين تعريفين للأمن الغذائي: اعتباره سلاحاً، واستعماله كتعبير اقتصادي. فالذي نعيشه في لبنان اليوم هو أمن غذائي سياسي أو حرب نفسية، لأنه يقع بين قوّتين إقليميتين، ولديه أهداف أيديولوجية عسكرية اقتصادية، وبالتالي هو مشغولٌ عليه بشكل جيد ليعطي آثاره، وهي آثار سلبية بكل المجالات والمستويات، وآثاره تطال المواطن في شأنه اليومي.
وبرأي حطب أنّه عندما يجد أيّ شخص أنّ أمنه الغذائي مستهدف، وأنّ هناك تراجعاً ونقصاً في هذه المؤن، فسيشعر أنّه مهدّد باستمراريته وأمنه وصحته، لا سيما أنّ هناك طرفاً من الأطراف (حزب الله) يقول التالي: “جماعتي حاصلون أو سيحصلون على احتياجاتهم الغذائية”، ويضع بقية الشعب اللبناني في مهبّ التهديد أو العجز، أو يطلب الحصول على ثقتهم ليؤمن لهم الغذاء، بحسب حطب أيضاً.
وعن تداعيات هذا التهديد الاجتماعي على المواطن اللبناني يقول حطب في حديثه لـ”أساس”: “هناك لبنانيون وخاصة بعد كورونا تراجعت إمكاناتهم الاقتصادية ويعجزون اليوم عن تأمين كافة احتياجاتهم، ليس لأنّ الغذاء لم يعد متوفراً في السوق لكن لأنّ إمكاناتهم المادية، إن وُجدت، تراجعت على الأقل 6 أضعاف، ما يرفع التوتر العام والشعور بالإحباط والخيبة لتصبح كل الاحتمالات مفتوحة، بما فيها وجود حالات تفكّر بترك المكان، أي بالهجرة، أو إلغاء وجودها مادياً بالانتحار، بسبب تراكم الضغوط”. ويتابع: “وإن كنا على الصعيد الرمزي رأينا حالتين أو ثلاثة حالات انتحار، لكن على صعيد التفكير بالموضوع هناك عشرات لا بل مئات الحالات بدأت تفكّر وتتحدّث عن الانتحار”.
مع مرور الوقت سنشهد، برأي حطب، أنّ هذه الحركة ستتصاعد وتتواصل، وتطال ليس فقط الأشخاص العاجزين عن تأمين أمنهم الغذائي الشخصي بمستويات دخلهم: “بل أيضاً من يستطيعون ذلك، لكنّ الأمان النفسي هو الذي سيدفعهم إلى إنهاء حياتهم”.
وتمنّى حطب أن يتحرّك المسؤولون قبل الوصول إلى مئات حالات الانتحار لأن كلّ الكلام الوعظي المجبول بكلمات مثل “سنقدر وسنتمكّن”، هو “أشبه بلعبة ترفيهية إلكترونية، ثمنها أرواح البشر وأمنهم النفسي والغذائي، ولا تتماشى مع الواقع الذي يحتاج فقط لإرادة سياسة ترغب في أن تخفّف من تأثير هذا الملف الملتهب والمتصاعد في نفوس اللبنانيين”.
إذاً لبنان في جوع ليس مجاعة حتّى اللحظة، وليس من مؤشرات تؤكّد عدم حصول الثانية مع تحوّل البلاد إلى ساحة صراع وحصار واضحة المعالم.
انتهت مجاعة لبنان الكبرى قبل سنتين من إعلان لبنان الكبير في 1920. اليوم، وفي الذكرى المئوية الأولى للبلد “الكبير”، هل تتكرّر المجاعة بعد مئة عام وسنتين؟ وهل يمكن أن تكون ولادةً للبنانٍ جديد ما عاد كبيراً أمام حجم الوجع والجوع وفجع السلطة؟