يقول المثل الشعبي الشهير “الغريق بيتعلّق بقشّة”. ولعلّ هذا المثل تحديداً يعبّر عن حال رئيس الوزراء حسّان دياب اليوم. وغرقه اليوم ليس سوى نتيجة انسداد أفق مفاوضات حكومته مع صندوق النقد الدولي، الذي طالب في الاجتماع الأخير بإصلاحات وخطوات يعلم دياب مسبقاً أنّ حكومته لن تقدر على تنفيذها بتركيبتها الحاليّة. وبما أنّ صندوق النقد هو المعبر الإلزامي لأيّ دعم مالي دولي آخر، فالرجل يعلم أنّ نهاية المحادثات مع الصندوق، ستعني سقوط جميع الخيارات الواقعيّة التي يمكن أن تراهن عليها الحكومة لمعالجة الأزمة. باختصار، لم يعد يملك دياب ما يقدّمه للقوى السياسيّة التي منحت حكومته الثقة في البداية. وهنا تكمن أزمة الحكومة الكبرى.
إقرأ أيضاً: معارك دياب الدونكيشوتيّة: باقٍ لغياب البديل…حتى إشعار آخر
أمّا القشّة التي يتمسّك بها دياب الغريق، فليست سوى مشروع التوجّه شرقاً. يملأ الرجل يوميّاته بجمع وزرائه مع وزراء الوفود العراقيّة والصينيّة، في محاولة للإيحاء بأنّه بصدد استقطاب استثمارات صينيّة ومشاريع تعاون مع العراق. مع العلم أنّ بعض المصادر الحكوميّة التي واكبت هذه الاجتماعات تفيد بأن نوعيّة الأفكار التي جرى التداول بها كانت جيّدة لكنّها غير متناسبة بتاتاً مع متطلّبات مرحلة انهيار مالي ونقدي كالذي يعيشه لبنان اليوم. لم يكتفِ دياب بإلقاء نظرة نحو الشرق، بل أراد أن يؤكّد كذلك إدارة ظهره نحو الغرب وبعض المحيط العربي، من خلال “التلطيشات” التي مرّرها في كلامه خلال جلسات الحكومة، حين تحدّث عن “تدخّلات دبلوماسيين في الشؤون الداخليّة اللبنانيّة”، و”أوامر العمليّات المشفّرة التي تأتي من الخارج”، وغيرها من العبارات التي توحي بأنّ حكومته كانت محلّ استهداف وحصار من قبل جهات خارجيّة.
لا يوجد أيّ سبب للاعتقاد بافتناع دياب بأنّ ما يقوم به يصبّ فعلاً باتجاه التعامل مع الانهيار الحاصل، سواء من ناحية الاستدارة شرقاً أو من ناحية إدارة الظهر نحو الغرب ودول الخليج. ببساطة، يبدو الرجل مهتماً أوّلاً بملء المشهد السياسي ببعض الاجتماعات البروتوكوليّة التي توحي بأنّ ثمّة ما تراهن عليه الحكومة في مواجهة الانهيار، ولو كان دياب نفسه يدرك أنّها رهانات غير واقعيّة.
لا يوجد أيّ سبب للاعتقاد بافتناع دياب بأنّ ما يقوم به يصبّ فعلاً باتجاه التعامل مع الانهيار الحاصل
كما يبدو الرجل مهتمّاً بتقديم أوراق اعتماده كاملةً لحزب الله، من خلال السير في مقترحات الأمين العام للحزب في أكثر من مناسبة، من قبيل التعاون الاقتصادي مع العراق أو البحث مع الصين في مشاريع استثماريّة محتملة. وبذلك، من الواضح أنّ دياب لجأ إلى القفز داخل مركب الممانعة ليشير للحزب بأنّه بات في خندقه الإقليمي، أملاً بزيادة تمسّك الحزب به وبحكومته في المرحلة المقبلة، بعد أن باتت معظم القوى السياسيّة الممثّلة في الحكومة تعبّر علناً عن امتعاضها من الأداء الحكومي.
عمليّاً من الواضح أن دياب، وإن نجح بتوفير بعض الدعم لبقاء حكومته من قبل حزب الله، سيكون قد سدّد رصاصة الرحمة على الاقتصاد اللبناني المنهار إذا ما استمرّ في هذا الأداء. فالأزمة الماليّة اللبنانيّة دخلت في مراحل حسّاسة باتت تُقاس فيها المضاعفات الحرجة بالأيام، وهو ما لا يتناسب مع إضاعة الوقت الثمين بمناورات إعلاميّة تعرض توجّهات وخطط غير مجدية على مستوى التعامل مع الأزمة الاقتصاديّة، لا بل غير قابلة للتطبيق قبل معالجة هذه الأزمة.
فالصين مثلاً تجاوبت بروتوكوليّاً مع رغبة الحكومة اللبنانيّة بفتح قنوات التواصل ومناقشة الفرص الاستثماريّة، لكنّ الشركات الصينيّة لن ترغب في الاستثمار في لبنان قبل معالجة أزمة تدهور سعر الصرف التي ستهدّد قيمة عوائد أيّ استثمار لها في لبنان، وقبل معالجة أزمة تعثّر الدولة اللبنانيّة التي ستهدّد قدرة الدولة اللبنانيّة على سداد أيّ التزام قد ينشأ للشركات الصينيّة بالعملة الصعبة. وعلى أيّ حال، من المعلوم أنّ الشركات الصينيّة مدركة تماماً لمخاطر الاستثمار في بيئات غير مستقرّة نقديّاً وسياسيّاً، وهو ما دفعها في وقت سابق إلى عدم التوسّع في استثماراتها داخل سوريا، حتّى في المناطق التي استقرّت أمنيّاً بعد سيطرة النظام عليها، لعدم رغبتها بتحمّل مخاطر الخضّات الاقتصاديّة والسياسيّة المحتملة.
عمليّاً من الواضح أن دياب وإن نجح بتوفير بعض الدعم لبقاء حكومته من قبل حزب الله سيكون قد سدّد رصاصة الرحمة على الاقتصاد اللبناني المنهار
وعلى أيّ حال، ثمّة مخاطر أخرى تتصل بالتوجّه الجديد الذي لجأ إليه دياب. فاعتماد منطق الاقتصاد المواجه للغرب، يقتضي وجود موارد طبيعيّة أو قدرات إنتاجيّة تسمح للدولة بتوجيه اقتصادها للاستغناء عن النظام المالي المعولم. مع العلم أن الدول التي ذهبت بهذا الاتجاه كإيران عانت كثيراً على مستوى معيشة مواطنيها، رغم امتلاكها لهذا النوع من القدرات الإنتاجيّة والموارد الطبيعيّة. أما في حالة لبنان، فلا يوجد ما يمكن الرهان عليه في الاقتصاد اللبناني إذا أرادت الحكومة فعلاً القيام بهذا النوع من الخطوات، خصوصاً في ظلّ مرور البلاد بمرحلة إفلاس وشحّ قاسٍ بالعملة الصعبة.
في كلّ الحالات، يبدو من الواضح أن دياب سيحاول المضي قدماً لملء الوقت بهذا النوع من الاستعراضات الإعلاميّة، خصوصاً أنّ جميع أبواب المعالجات الفعليّة باتت موصدة أمام حكومته التي أعطت ما يكفي من إشارات سلبيّة لتيئيس جميع الداعمين الماليين المحتملين، فيما تبدو الحكومة مصابة بشلل ضرب قدرتها على المبادرة وإعادة تصويب الأمور. وفي إطار هذه الصورة السوداويّة، لا يمكن سوى انتظار المزيد من مظاهر التعاسة في يوميّات اللبنانيّين، من رفوف السوبرماركت الفارغة، إلى تضخّم الأسعار الجنوني الذي يأكل قدراتهم الشرائيّة، وتوالي إقفال الشركات وتسريح العاملين.
باختصار، يحاول دياب شراء الوقت إعلاميّاً وسياسيّاً لحكومته في هذا النوع من العراضات، لكنّه يحمّل كلفة ذلك إلى عموم اللبنانيين من خلال تدهور الوضع النقدي والاقتصادي.