قبل 17 تشرين الأول 2019، كان المشهد السياسي متوزّعاً على نحوٍ متداخل بين عنصرين أساسيين: الأحزاب والقوى السياسية التي تتقاسم رسمياً امتيازات السلطة ومنافعها من جهة، ومن جهة مقابلة حزب الله كحركة مسلّحة، يجوز لها ما لا يجوز لغيرها، بالنظر لاتخاذها صفة الدفاع عن لبنان، لا ضدّ إسرائيل وحسب، ما يجعل حصولها على امتيازات غير رسمية تحصيل حاصل،. لكن ما أثقل العبء أكثر فأكثر، هو دخول الانتفاضة الشعبية خريف العام الماضي، كعنصر إضافي في المشهد السياسي، زاده رَهَقاً وتعقيداً، دون أن يتمكّن من تخليص لبنان من العنصرين السابقين، ولا الثورة بطبيعة الحال قادرة على حذفهما من الوجود، ولو حلم بعضهم بتدخل خارجي أو انقلاب داخلي، يعيد إنتاج الدولة من جديد.
إقرأ أيضاً: حسان استقال ونوّاف في السراي..
هذه القراءة الواقعية ضرورية لاستشراف المدى المنظور من الحراك السياسي الراهن على وقع اعتبارات عدة: انهيار نقدي ومالي واقتصادي غير مسبوق فاقمه انفجار المرفأ وتبعاته الثقيلة، مع الإخفاق الشديد في التفاوض مع صندوق النقد الدولي أو في الحصول على مساعدات من دول شقيقة وصديقة بسبب سقوط المصداقية. وحصار أميركي محكم على سوريا تحت عنوان “قانون قيصر” بهدف إجبار النظام وحلفائه على إبرام تسوية سياسية شبه متوازنة مع المعارضة، وبالضدّ من محاولات الحسم العسكري، وهو ما ينعكس سلباً على لبنان، سياسياً ومالياً واقتصادياً، بسبب الارتباط الجغرافي والديموغرافي والسياسي والاقتصادي والاستراتيجي بين البلدين. وهناك أيضاً صراع دولي محتدم في الهلال الواقع بين طهران وبيروت، امتداداً إلى مصر وليبيا وتونس، ونزولاً إلى الجزيرة العربية ومضائقها الاستراتيجية بين بحري العرب والأحمر، دون أن نُغفل التدافع المستجدّ في شرقي المتوسط بين تركيا الطامحة لاسترداد مكانتها السابقة وبين فرنسا ومِن وَرَائها أوروبا الحريصة على حبس الحلم التركي في مكامنه، وعلى عدم تغيير موازين القوى في البحر والبرّ، وهو أحد استهدافات إيمانويل ماكرون إلى لبنان، إذ استعاد هذا البلد الصغير قيمة استراتيجية محورية في لعبة الأمم المستعرة.
أثناء ولاية الحكومة، كان الفراغ هو الحاكم، مع كثير من الجعجعة بلا جدوى. لم يكن ثمّة رئيس حكومة حقيقي
إنّ القصد من هذه اللمحة الشمولية، تبيان أنّنا لا نعيش في جزيرة معزولة عن المحيط، وأنّ جزءاً أساسياً من الأزمة الراهنة، يرجع إلى الاضطراب الشديد في المنطقة برمّتها. بل إنّ الاستقطاب ليس بين معسكرين واضحين، (إيران وحلفاؤها من جهة، وإسرائيل وحلفاؤها من جهة أخرى)، بل شأنه خارج لبنان كما هو داخله. إذاً فهو ثلاثي الأبعاد. وهو الذي أسقط الربيع العربي، ولم يتمكّن من استرداد النظام القديم، فأصبحنا بين بين، مع قدر هائل من السيولة السياسية وانمحاء الفواصل والقواطع، فلا ندري من هو ضدّ من، ومن هو مع من!
أما استقالة حسان دياب التي كانت متوقعة منذ الفشل في تفليس لبنان للحصول على مساعدات نقدية طازجة، بل منذ دحرجة الأزمات، وبأسباب غير مفهومة في ذلك الحين، (إسقاط الليرة، والتعتيم الشامل، وإخفاء البنزين والمازوت، إلخ.)، فلن تكون فاتحة لصفحة جديدة، بل إمعاناً في التمسكُن والتفقير من أجل استعطاف الأصدقاء وعلى رأسهم فرنسا، والأشقاء العرب وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، لإنقاذ الشعب اللبناني من الهلاك، فيما المقصود هو إنقاذ هذا النظام بمكوّناته ومقوّماته من التهاوي.
أثناء ولاية الحكومة، كان الفراغ هو الحاكم، مع كثير من الجعجعة بلا جدوى. لم يكن ثمّة رئيس حكومة حقيقي، وهو منقطع عن أيّ حيثية شعبية أو طائفية تسنده. فيما يقبع خلف الستار، سلطان كبير بين أيديه حُجّاب وولاة يتقاذفون المسؤوليات والاتهامات، ورئيس الحكومة من بين أضعفهم، مع أنه كان أكثرهم انشغالاً في عقد الاجتماعات. فكيف يكون الحال، ولا حكومة سوى لتصريف الأعمال في أضيق مجال؟
على مستوى أضيق، هل يمكن إعادة إنتاج النظام القديم في لبنان، بحكومة وحدة تحاصصية بين مكوّنات الطبقة السياسية نفسها، وكأنّه لا انهيار ولا ثورة؟
لبنان إذاً بانتظار التسوية الإقليمية والدولية، لكن كيف تولد؟ وفي أيّ مكان؟
بات مصيره مرتبطاً في أقل تقدير بمصير الحرب في سوريا. انهيار الليرة في لبنان يتساوق مع انهيار الليرة في سوريا على نحوٍ متعاكس أو متزامن بحسب ظروف التداول. حركة الاقتصاد الموازي في لبنان تساوي حركة مماثلة في سوريا، والعكس صحيح. المخاطر الأمنية في سوريا لن تبقى بعيدة عن لبنان، فيما لو انهارت الدولة، وبحثت كلّ طائفة عن راعيها الإقليمي. بل إنّ اهتزاز الكيان السوري المتنوّع يشي بتزعزع مماثل في لبنان المتنوّع بدوره. هل يمكننا بعد كلّ هذا، حلّ أزمة لبنان بعيداً عن أزمات المنطقة كما يحلم ماكرون؟
على مستوى أضيق، هل يمكن إعادة إنتاج النظام القديم في لبنان، بحكومة وحدة تحاصصية بين مكوّنات الطبقة السياسية نفسها، وكأنّه لا انهيار ولا ثورة؟ أين هي الفكرة الإبداعية في الدوران حول الذات مجدّداً بحثاً عن شروط مستحيلة لإعادة سعد الحريري إلى السراي؟ وأين هو البديل السنّي من غير طراز الدكتور حسان دياب، ولا من نمط رؤساء الحكومة السابقين الذين هم عاجزون حالياً عن استنهاض الثقة وإحداث الصدمة الإيجابية في الشارع؟
قد يبدو الأفق مظلماً شبيهاً بدخان العنبر رقم 12 في 4 آب الجاري، المتعدّد الألوان والمتلوّي كالأفعى. لكن على السياسيين المحترفين عدم إضاعة الفرصة التي تلوح من بين ثنايا استقالة هذه الحكومة، كما أضاعوها عندما تواطؤوا على تشكيل الحكومة الممسوخة لحسان دياب. المطلوب من دون مواربة، نهج سياسي جديد يصبّ دماً نقياً في شرايين مسدودة. أسماء لامعة مقبولة شعبياً وشخصيات ذات كفاية وخبرة. ليكن لأوّل مرّة استفتاء الناس بمن يرضونه من الحكّام، بعيداً عن الوكالات الحصرية طائفياً وبرلمانياً. فليتنازل النواب عن هذه المهمّة هذه المرة فقط، أي اختيار الحكومة. وليسألوا قواعدهم الشعبية من يرشّحون لها، ما داموا يرفضون تقصير ولايتهم حتى الآن.