على مساحةٍ لا تتجاوز الخمسمئة متر، وفي منطقة منخفضة بين البسطة ووسط بيروت، يجلس القرفصاء الحي ذو السمعة الإشكالية. يحاول استنشاق الإنماء بصعوبة. يصارع الماضي الساكن في أبنيته العتيقة، الذي يلبس آثارَ الحرب الأهلية. ويصطدم بواقعٍ يعيده، باستمرار، إلى “المتراس” من جديد. لعلّها “لعنة” الجغرافيا، وهي بالتأكيد مهزلة التاريخ واستعادته.
في المنطقة نجد مزيجاً شيعياً – سنياً، بيروتياً – جنوبياً. مزيج جميل لا يشبه “صيت الخندق”
المشهد في الخندق الغميق مختلف نوعاً ما عن كل ما نسمعه ونقرأه في وسائل الإعلام المحلية والعربية بعد كلّ “هجمة” على متظاهري الرينغ أو على وسط بيروت. ففي الداخل حياة شبه طبيعية: حيٌ متواضع، قلّ إنماؤه كغيره من المناطق اللبنانية، لكن كثُر إيمانه السياسي بزعمائه، ما سهّل ربما دخوله في خنادق السياسة. وغياب الإنماء عنه يبدو غريباً، كونه لا يبعد عن “سوليدير” سوى أمتار قليلة لا تتجاوز عدد أصابع اليدين.
إقرأ أيضاً: عن احتضار سوق فرن الشبّاك
جغرافياً يمتد الخندق بأبنيته التراثية، والحديثة المتواضعة، من البسطة التحتا إلى جسر فؤاد شهاب المعروف بجسر الرينغ. ويقع ضمن نطاق منطقة الباشورة – بيروت. سميّ “الخندق” نسبةً إلى طبيعته المنخفضة بين ما حولها. وهو في الحقيقة خندق لم يتّسع للترف الذي غيّر معالم المدينة القريبة، وحرمه انخفاضه حتّى من انعكاس ضوء تلك المباني الفاخرة الشاهقة على زواياه الرطبة والعتيقة.
لكن لم تمنع هذه العتمة أبناء الحي الفقير من التنعّم بنور “العيش المشترك”. ففي المنطقة نجد مزيجاً شيعياً – سنياً، بيروتياً – جنوبياً. مزيج جميل لا يشبه “صيت الخندق”، بل يشبه العاصمة المتنوّعة، والتي تحاول الصمود. المدينة التي قهرت الحروب والانتدابات المختلفة، لكن هذه المرّة قهرها الجوع، وليس أيّ غازٍ أو محتلّ.
أبو أحمد رجل خمسيني كان يلعب الطاولة مع “كبارية الحي” حين مررنا. يتذمّر من وجودنا في المنطقة، ويعبّر عن امتعاضه من الإعلام بشكلٍ عام “لنقله صورة بشعة عن الخندق”. يؤشّر بيده إلى المبنى القريب ويقول: “هنا أعيش أنا وجيراني من سُنّة بيروت، لم أشتمهم ولم يشتموني يوماً ونأكل في الصحن نفسه”. ويؤكد أنّ المنطقة، على عكس ما يُشاع عنها، تنعم بـ”التعايش الحقيقي”. ويتابع: “من منّا في طفولته لم يأكل الراحة عند أبو علي نايف، بائع الساعات السُنّي العتيق الذي كان لديه محلّ صغير يتوسط الخندق. ولا يخلو بيت من بيوت الخندق من شخص قدّمت شقيقته فاطمة خدمات استشفائية مجانية له”.
لعلّها واحدة من مسرحيات “التعايش” التي ينفر منها القارىء. والكاتب كذلك. لكنّها هنا حقيقية. هذا “الكليشيه” موجود في شوارع بيروت وأزقّتها. فالجيران هنا لا يقيسون علاقاتهم بميزان السياسة. السياسية شأن “استراتيجي”، علاقات الجيرة مستقلّة عنه.
يشير محدّثنا بيده إلى أحد المباني أيضاً في آخر الشارع ويخبرنا عن “روز”، السيدة المسيحية، الآتية من بحمدون، والتي بقيت في منزلها حتّى توفيت قبل سنوات، ولم تترك منزلها ولم تبِعه: “وحتى خوارنة الكنيسة لم يغادروها إلا منذ فترة بسبب أعمال الترميم”، قاصداً كنيسة القديس جرجس للسريان الكاثوليك.
سلام خزعل، وهو بيروتي “سنّي”، من سكان بناية الخطيب (البناية الأكبر في الخندق والأكثر كثافة) تزعجه الصورة المنقولة عن “الخندق” أيضاً. يؤكد على حقيقة “تعايش” أهل المنطقة: “فنحن لا نفرّق بين سني وشيعي وبين مسيحي ودرزي”. ويخبرنا أنّه عندما يترك أولاده الأربعة في البيت لوحدهم يعرف أنّ جاره الشيعي إذا صرخ أحدهم أو حصل خطبٌ ما “سيسبقني لإسعافهم”. ويكرّر “معزوفة” أبو أحمد، عن أنّ أهالي الخندق، بمختلف طوائفهم وانتماءاتهم، ربّوا أولادهم على عادات “الجيرة”، لأنّ الحرب “علمتنا الكثير، لاسيما أنّ الخندق كان أحد خطوط التماس في الحرب الأهلية. وكنّا ننام متجاورين على الدرج أيام الحرب، وكنا نتشارك اللقمة”. ويطالب بأن يكفّ الإعلام “فتنته” عن المنطقة التي لا تحتاج لأكثر من الإنماء وفرص العمل كباقي المناطق المحرومة من اهتمام ورعاية الدولة.
نمشي قليلاً باتجاه “الرينغ” الذي بات واضحاً إلينا على بعد أمتار، وإذا بكنيسةٍ شاهقة بدأت بها أعمال الترميم، وهي الكنيسة التي تحدث عنها أبو أحمد، كنيسة القديس جرجس التي بُنيت في عهد “السعيد الذكر البطريريك أغناطيوس جرجس شُلُحت 1878” كما نُقِشَ على بوابتها. وهي تشهد على تاريخ المنطقة الموغل في القدم، التي كانت في الأصل ذات أكثرية سكانية من السريان والسُنّة، والقليل القليل من العوائل الشيعية البيروتية، قبل أن ينزح إليها أهالي قرى الشريط الحدودي في الجنوب، كما يروي أبو علي، ابن العديسة، “بسبب البطش الإسرائيلي” على أراضيهم منذ ما قبل اجتياح لبنان: “فمنذ الـ1948 كان أجدادنا يعانون من الاعتداءات الاسرائيلية في ظل تطنيش الدولة اللبنانية لمواطني الشريط الحدودي.
“الخندق” ليس شيعياً، بل هو “مسيحيّ” الماضي، وسنيّ – شيعيّ الحاضر. خندق يقع على أبواب “سوليدير”، مخلوطاً من “مهجّري” الجنوب، ومن أهل بيروت الأصليين، ومن ذاكرة مسيحية وكنيسة قيد الترميم
وبينما كانت مناطق لبنان كلها بخير، وكانت بيروت “سويسرا الشرق”، كان سكان الشريط الحدودي يعانون الأمرّين من الاعتداء ومن غياب الإنماء أيضاً، حتى نزحوا إلى بيروت للعمل في “العتالة على البور” وفي بيع الخضار: “واليوم أصبحنا من الملّاكة في بيروت بعد سنوات من التعب والجهد، وبعد أن باع عدد من سكان الخندق منازلهم وفضلّوا الذهاب إلى أمكنة أقلّ كثافة”. ويقول أبو علي هنا: “وربما هذه الشراسة والقوة التي تلمسونها لدينا ولدى أولادنا نبعت من الحقد الذي تربينا عليه تجاه اسرائيل”. هنا نعود إلى “لعنة” الجغرافيا، ومهزلة التاريخ الذي يعيد إنتاج الحقد والقهر.
زاد النزوح إلى المنطقة إبان الاجتياح الاسرائيلي للبنان، وكان من أوائل العائلات الشيعية البيروتية التي استوطنت “الخندق” آل قبيسي. ومن العائلات التي نجد بعض أفرادها “نفوسهم” في سجلات القيد تتوزّع بين بيروت وقراهم الأصلية في الجنوب، نذكر: قاروط، شقير، عساف، خريس، وقبلان. وكذلك من العائلات البيروتية السنيّة التي تسكن “الخندق” نذكر: عيتاني، منيمنة، دامرجي وخزعل، يتوزعون على الشوارع العديدة التي تمرّ بـ”الخندق” وأبرزها شارع عبد الحميد الزهراوي، شارع السنديانة، شارع الاستقلال، شارع الأحدب، شارع طاسو وشارع الجندي. وهو تعداد يظنّ الواحد حين يعرف به أنّنا في “جمهورية” ولسنا في “خندق”.
ليست الكنيسة وحدها شاهدة على حقبة عتيقة من ذاكرة “الخندق”. فأحد أقدم دور النشر والطباعة، هو “الدار النموذجية للطباعة والنشر والتوزيع”، وإلى جانبه “المكتبة العصرية – شركة أبناء شريف الأنصاري”، التي تأسست في العام 1890، كانت توزّع الصحف على جميع المناطق اللبنانية قديماً، وهي من المعالم الصامدة إلى جانب الكثير من المباني بوجه المتغيّرات المجاورة وتطوّر الحياة، وتشهد على تاريخ يحاول أن يعيد نفسه من جديد في “الخندق”.
الاستنتاج الأوّلي، أنّ “الخندق” ليس شيعياً، بل هو “مسيحيّ” الماضي، وسنيّ – شيعيّ الحاضر. خندق يقع على أبواب “سوليدير”، مخلوطاً من “مهجّري” الجنوب، ومن أهل بيروت الأصليين، ومن ذاكرة مسيحية وكنيسة قيد الترميم…
[PHOTO]