يبدو أنّ رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل حسم وقوفه إلى جانب حزب الله وإيران ونظام بشار الأسد في المواجهة الآتية على المنطقة، وقال “أهلا بالعقوبات”، مكملاً أنّه يراهن على فوز جو بايدن بالرئاسة الأميركية، وأنّه حتى لو فاز دونالد ترامب فسيصل إلى اتفاق مع إيران. هكذا وضع باسيل بيض رهانه كلّه في سلّة حزب الله وإيران، ظنّاً منه أنّه بذلك تتقدم حظوظه نحو الرئاسة إذا تقدّم خيار التسوية، وتسليم لبنان إلى إيران بشكل أو بآخر.
إقرأ أيضاً: باسيل يُعلن الحرب على قائد الجيش (1/2)
كما بدا باسيل من المعجبين بأسلوب حليفه السيّد حسن نصرالله في مخاطبة “جمهور المقاومة” عبر شاشة التلفزيون. استنسخ تجربة نصرالله أمس فكان أحد أهمّ أهداف مؤتمره الصحافي مخاطبة جمهور تياره الذي وإن كان تململه من سياسة قيادته سابقاً على انفجار 4 آب فهو قد تكثّف بعده إلى حدّ أن خيار ترك “الحزب العوني” بات خياراً مطروحاً لدى العديد من المحازبين.
إذا كانت طبيعة “حزب الله” كحزب أمني / عسكري وسياسي في آن معاً تحتّم على زعيمه مخاطبة جمهوره بالشكل المذكور، فلا يمكن فهم اعتماد باسيل الطريقة نفسها في مخاطبة قاعدته الحزبية سوى بأنها انعكاس لاختلال العمل الحزبي والسياسي في “التيار البرتقالي”. وإلا لما كان باسيل توسّل الإطلالة التلفزيونية المباشرة لتبرير سياساته أمام محازبيه، ولكان محازبوه الذين يعارضون السياسات تلك تمكنوا من التأثير فيها وتبديل وجهتها بدل أن يكون مآل اعتراضهم ترك الحزب.
موقف باسيل الضبابي من المحكمة يحفّز على السؤال عن كيفية تعاطي العهد مع استحقاق إعلان المحكمة الدولية حكمها في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري
لكن حتّى لو شئنا غضّ الطرف عن طريقة مخاطبة باسيل جمهوره، فهو بحديثه إليهم أمس زاد ولا شكّ تساؤلاتهم وحيرتهم لكثرة ما وقع في التناقض. وهو تناقض بات أصلاً في سياسته. فهو واقف مع “حزب الله” ضدّ الإرهاب وإسرائيل، “لكنّنا لسنا مجبرين أن ندافع عن أخطائهم بالداخل”. وذلك من دون أن يذكر شيئاً عن تلك الأخطاء، وكأنّ الحزب يفصل أصلاً بين سياسته الداخلية والخارجية. بل يتهّم باسيل الحزب بما يتهمّ الحزب به سواه أي عدم المساعدة في “بناء الدولة”، وعدم الرغبة في الإصلاح، وإلّا ما معنى قول باسيل “منخانق حزب الله لحدّ الفراق على مسألة بناء الدولة، ونحنا رايحين على هيدا المطرح إذا المرحلة المقبلة ما تحمّلوا المسؤولية معنا وتمّت فيها كل الإصلاحات اللازمة”.
علماً أنّ البطريرك الماروني بشارة الراعي كان قال قبل وقت قصير من مؤتمر باسيل إنّ “الإصلاح الذي نفهمه ليس إصلاحاً إدارياً فقط بل إصلاح القرار الوطني بأبعاده السياسية والأمنية والعسكرية. فالشعب يريد الإقرار بسلطة الشرعية دون سواها كأساس المشاركة في الحكومة”. وهو كلام إذا ما وضع في سياق مواقف البطريرك منذ “نداء 5 تموز” يحيل إلى رؤية بكركي لجذور الأزمة اللبنانية الراهنة والمتمثلة بـ”حصار الشرعية” من قبل “حزب الله”.
وهذا جانب أسقطه باسيل من خطابه إذ لم يتطرّق إلى أصل الخلاف الداخلي مع “حزب الله” بوصفه خلافاً حول سلاحه وأدواره الداخلية والخارجية، بل ذهب إلى تصوير الأزمة كما لو أنّ سببها الرئيسي محاولة “عزل مكّون لبناني”.
ووفق قاعدة “التناقض البنّاء” نفسها تناول باسيل قضية المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، إذ قال: “نحنا بدّنا العدالة ولكن بدّنا ياها شاملة. لا نقبل ظلم أحد من اللبنانيين بعدم إحقاق العدالة له ولكن أيضاً لا نقبل التشفّي من أحد”. وهل في العدالة تشفّي؟ كما أنّ موقف باسيل الضبابي من المحكمة يحفّز على السؤال عن كيفية تعاطي العهد مع استحقاق إعلان المحكمة الدولية حكمها في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري. فهل سيتّم التعاطي معها كما لو أنّها شأن يخصّ فريق بعينه أم بوصفها قضيّة تخصّ الدولة اللبنانية التي وافقت على انشاء المحكمة وساهمت في تمويلها. مع تسجيل نقطة إيجابية لباسيل بقوله: “عنا دور كبير نلعبه بمنع أي اقتتال داخلي أو فتنة”، على خلفية صدور الحكم المذكور.
بقى الأهم في خطاب باسيل ما يتجاوز مقاربته نفسها إلى مقاربة المسيحيين عامة للأزمة الراهنة بوصفها أزمة نظام لا أزمة حكم
وهذا غيض من فيض تناقضات باسيل إذا ما أضفنا إليها مقاربته لتموضع لبنان، وبشكل مبطّن مسيحييه، بين الشرق والغرب، خالطاً بين السياسة والثقافة وبين الهوية الأصلية والاستعداد للتفاعل مع العالم كإحدى خصائص تلك الهوية العربية / اللبنانية نفسها.
لكن يبقى الأهم في خطاب باسيل ما يتجاوز مقاربته نفسها إلى مقاربة المسيحيين عامة للأزمة الراهنة بوصفها أزمة نظام لا أزمة حكم. لقد بقي لبنان بلا رئيس للجمهورية سنتين ونصف السنة بحجّة أنّ وصول رئيس ضعيف إلى قصر بعبدا هو بمثابة إخلال بالشراكة الوطنية. والحال فقد اختُصرت تلك الشراكة بما سمّي “الميثاقية” في تأويل مصلحي لـ”ميثاق 1943″ الذي قام أصلاً على أساس إلزام اللبنانيين أنفسهم بالولاء لوطنهم الوليد لا للخارج. فإذا بالمسيحيين الذي تبنّوا هذه النظرية، وفي مقدمّتهم “التيار الوطني الحر” لكن أيضاً بتواطؤ ضمني من “القوات اللبنانية” و”الكتائب اللبنانية”، قد اصطدموا بحقيقة أنّ الشراكة التي سعوا إليها فرضتها موازين قوى قامت ولا تزال على حساب سيادة الدولة.
ولذلك على الوزير باسيل ألا يستغرب تحميل أهالي الجميزة ومار مخايل السلطة السياسية، بما في ذلك العهد، المسؤولية السياسية لتفجير المرفأ، تماماً كما حمّل الشعب في الساحات في العام 2005 المسؤولية السياسية والأمنية عن جريمة اغتيال الحريري، إلى النظام الأمني اللبناني السوري وسلطته السياسية. فأي جريمة من هذا النوع وفي أي بلد في العام تتحمّل مسؤوليتها السياسية السلطة السياسية القائمة. مع فارق أنّ الحكم الحالي في لبنان بوصفه حكماً قائماً على المقايضة بين “المناصب والسيادة” يتحمّل مسؤولية سياسية مزدوجة!