آبي تشيسمان (Abbie Cheeseman) تلغراف، 30 حزيران
لم يندهش محمد (30 عاماً) تقريباً حين اهتزّ هاتفه، معلناً وصول خبر عن تدهور جديد في سعر صرف الليرة: “عظيم. بات راتبي الآن يعادل 60 دولاراً”، قالها وهو يهزّ رأسه، هو الأستاذ لمادة الاقتصاد في سوريا، وقد أصبح لاجئاً في لبنان.
في الأسبوع الماضي فقط، خسرت الليرة أكثر من 40% من قيمتها. ملايين الناس يتفرّجون على مدخراتهم وراتبهم وهي تختفي، مع تضخم أسعار الطعام 200% تقريباً.
إقرأ أيضاً: لبنان الأفقر إقليميّاً بعد سوريا وإيران: خسر 79% من قيمة الرواتب
جلس محمد في سوق مخيم شاتيلا، محاولاً أن يحسب كمية الطعام التي يمكنه شراؤها، لكفايته وزوجته وولديه. أخيراً، قرّر شراء البطاطا لوجبة العشاء: ثلاث شرائح من البطاطا، ومعها نصف فلفلة حمراء، وبعض الخيار إلى جانبه. هذا سيكون العشاء لأربعة أفراد.
“قبل أزمة الدولار، كان راتبي من عملي الحر كمساعد محاسب، يصمد ما بين 15 إلى 20 يوماً. الآن لا يكفي إلا لخمسة أيام. وأعتقد أنهم سيصرفوننا كلنا من العمل أواخر تموز… حتى الآن، كانت أسرتي تحصل على الحدّ الأدنى من أجل البقاء. نستدين من السوق كي نأكل بقية الشهر”.
لقد فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 80% من قيمتها منذ تشرين الأول العام الماضي، عقب أسوأ أزمة اقتصادية تصيبه في التاريخ الحديث، حين بدأت الاحتجاجات ضدّ الفساد تعمّ أرجاء البلاد.
لم يعد اللاجئون وغيرهم من الأشخاص الضعفاء هم الذين يشعرون فقط بالقلق بشأن قدرتهم على إطعام أسرهم
وعلى الرغم من ثبات سعر الليرة بإزاء الدولار، 1500 ليرة لبنانية للدولار، طوال عقود، إلا أنّ الناس الآن باتت تعتمد على سعر السوق السوداء في نطاق واسع، كمرجع للقيمة الحقيقية للعملة.
ووفقاً لتقرير حديث للأمم المتحدة، كان أكثر من نصف سكان البلاد يكافحون من أجل شراء المنتجات الغذائية الأساسية بحلول نهاية شهر نيسان، مع ارتفاع الأسعار بنسبة 56% منذ تشرين الأول. وتشير النتائج الأولية إلى أنها ارتفعت بين منتصف آذار وأيار بنسبة 50%.
ترتفع نسبة البطالة، لكنها تسارعت بسبب الوباء. انخفضت قيمة الأجور، وما تزال الأسعار تحلّق صعوداً. ويستضيف لبنان أيضاً حوالى 1.5 مليون لاجئ، وهي النسبة الأعلى في العالم بالقياس إلى عدد السكان.
لم يعد اللاجئون وغيرهم من الأشخاص الضعفاء هم الذين يشعرون فقط بالقلق بشأن قدرتهم على إطعام أسرهم مع خروج الاضطراب الاقتصادي في لبنان عن السيطرة.
الأستاذ المساعد في برنامج “الأمن الغذائي” في الجامعة الأميركية في بيروت، مارتن كولرتز، يقول: “كان بإمكان اللاجئين في السابق شراء بعض الطعام من المساعدات التي يقدّمها برنامج الغذاء العالمي للأمم المتحدة (WFP)”. ويضيف: “كانوا قادرين على استهلاك بعض العدس، وبعض اللبنة وما إلى ذلك، ولكن نادراً ما كان متاحاً شراء الخضار. وشراء الفاكهة صعب. أما اللحم، فكان غير وارد أصلاً. وما يثير القلق جداً الآن هو أنّ غالبية اللبنانيين على المسار نفسه”.
هل يمكن للبنان أن يتجه إلى تكرار مجاعة 1915-1918 التي خسر خلالها البلد نصف سكانه؟
“بالتأكيد”، بحسب تعبير كولرتز: “فبحلول نهاية العام، سيكون 75% من السكان على لوائح المعونات الغذائية. لكنّ السؤال هل سيكون هناك طعام لتوزيعه؟”. ويتابع: “من المؤكد أننا سنشهد خلال الأشهر القليلة القادمة سيناريواً خطيراً للغاية يتضوّر فيه الناس جوعاً ويموتون من الجوع، ومن آثاره”.
وأوضح كولرتز أن احتمال انتشار الجوع على نطاق واسع في لبنان يثير مخاوف متزايدة بشأن الموجة الثانية من فيروس كورونا، حيث من المرجّح جداً أن يموت الأشخاص الذين يعانون من ضعف في جهاز المناعة.
مثل الانهيار الاقتصادي، كان لبنان ينزلق نحو انعدام الأمن الغذائي منذ عقود
محمد من بين اللاجئين السوريين الأكثر حظاً في لبنان، إذ ما يزال يحظى بعمل. ووفقاً لتحقيق نشر الأسبوع الماضي لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، فإن ثلاثة من كلّ أربعة لاجئين سوريين فقدوا عملهم أو ليس لديهم مردود مالي.
عبد الله وردات، مدير البرنامج في لبنان، صرّح لصحيفة “تلغراف” أنّ 83% من اللاجئين السوريين في لبنان، الذين يقدّر عددهم بمليون ونصف المليون، يعيشون على أقل من 2.90 دولاراً يومياً، وهو الحدّ الأدنى للبقاء، ويدخل هؤلاء في خانة “الفقر المدقع”.
بعد أن يدفع محمد إيجار البيت، يبقى لديه 66 دولاراً لشراء الطعام. وكان ثمن الحليب لولديه 18 دولاراً قبل أزمة الدولار. حتى بعدما بدأ محمد بشراء نوعية أدنى من الحليب، فإنّ الأرخص هو بقيمة 33 دولاراً. كيس الرز بـ10 دولارات، والسكر بـ8 دولارات. المواد الأساسية التي اعتاد على شرائها بمبلغ 66 دولاراً، كانت تكفي أسرته لعشرة أيام. الآن تكفيها ليومين.
ومثل الانهيار الاقتصادي، كان لبنان ينزلق نحو انعدام الأمن الغذائي منذ عقود. ومع البنية التحتية المتداعية، ونقص الاستثمارات الحكومية، وسوء الإدارة السياسية، بات القطاع الزراعي يمثّل 3% فقط من الناتج المحلي الإجمالي السنوي، على الرغم من أنّه يمنح فرص العمل لـ25% من القوة العاملة.
ومثل كلّ قطاع في لبنان، فإن قطاع الزراعة حافل بالفساد، وبالتجار الأقوياء الذين يستغلون المزارعين والمستهلكين. وبسيب فيروس كورونا والأزمة الاقتصادية الآن، وصل النهج الاقتصادي غير المستقرّ للبنان نحو انهيار كلّ قطاعاته الاقتصادية تقريباً. والنتيجة أن لبنان يستورد ما يصل إلى 80% من طعامه، ما يجعله هشّاً أمام تقلبات أسعار المواد الغذائية، والآن أمام انهيار عملته. وما يجعل الأمور أسوأ هو أن معظم المستوردين يضطرون إلى شراء قرابة 80% مما يحتاجونه من العملة الأجنبية بالسعر المتصاعد لليرة في السوق السوداء، إلى جانب لائحة تضمّ 30 من المواد الأساسية المدعومة من الحكومة.
وأوضح مسؤول في برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة أن هناك ركيزتين أساسيتين للأمن الغذائي. أولاً، الحصول على ما يكفي من الغذاء في البلد وثانياً، الأشخاص الذين لديهم القدرة الشرائية للوصول إليه. الآن يواجه لبنان ضربة مزدوجة مع ضرب كلا الركيزتين في الوقت نفسه.
إنّ الواردات قد تراجعت بالفعل بنحو 50% عن العام الماضي كما يقول رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية والمنتجات الاستهلاكية والمشروبات هاني بحصلي. ومن المتوقع أن يصبح الوضع أسوأ بالنسبة إلى مستوردي المواد الغذائية حيث يضطرون الآن إلى شراء حوالى 80% من عملتهم الأجنبية لشراء الواردات، وفق سعر السوق السوداء المتزايد باستمرار.
وبحسب الدكتور كيولرتز، يحتاج لبنان إلى حوالى 500 مليون دولار سنوياً لاستيراد المواد الغذائية، خصوصًا أنّ 13% فقط من أراضيه صالحة للزراعة.
بات مشهداً عادياً أن ترى أناساً يبحثون عن الطعام بين أكوام النفايات، أو يقفون في صفوف طويلة لاستلام مساعدات
وبحسب تعبير أستاذ الجامعة الأميركية في بيروت: “إذا قمت بعملية حسابية، فلن يتمكن لبنان من إطعام سوى حوالى 130.000 شخص سنويًا. لذا فإنّ أزمة الغذاء تحتاج إلى تدخل أجنبي، وإنقاذ هذا البلد أرخص بكثير مما سيكون عليه الأمر لو تُركت دولة تنهار، وهي التي خدمت أوروبا باستضافة اللاجئين على أراضيها”.
الطبقة المتوسطة في كلّ زوايا هذا البلد المتوسطي الصغير، تصاب بالفقر. والفقراء فيه ينحدرون إلى العدم، مع اندفاع أسعار الطعام فوق طاقة معظم الناس.
يقول محمد شريم (60 عاماً) الذي يملك ملحمة في قلب بيروت منذ 40 عاماً: “كنت أربح جيداً قبل الأزمة، في الأقل مليون أو مليوني ليرة يومياً. كنت منشغلاً بحيث لا يمكنني التوقف عن العمل طوال اليوم”. الآن، ينفق شريم 200 ألف ليرة يومياً من جيبه كي يبقى محله مفتوحاً. “من كان معتاداً على شراء كيلوغرامات من اللحمة، لم يعد قادراً على شراء اللحمة. لذلك عندما يأتون يشترون غرامات”.
كان ثمن كيلوغرام اللحمة عند شريم يعادل 11 دولاراً، لكنه الآن يعادل 33 دولاراً، فقد تضاعف ثمنه ثلاث مرات منذ تشرين الأول: “وإذا استمرت الأزمة الاقتصادية، كما تعلم، فلن أكون قادراً على فتح محلّي غداً. أدفع من حسابي لإبقائه مفتوحاً. سأصاب بالإحباط لو بقيت في البيت”. وكما كلّ شخص يعتمد على مدخراته كي يعيش، فإنّ شريم غير واثق كم سيصمد بهذه الحالة.
وبينما تفرغ المطاعم من روادها، وقف الناس في طوابير أمام المخابز في عطلة الأسبوع، وسط توارد الأنباء عن وقف توزيع الخبز في المتاجر بالنظر إلى انهيار سعر الليرة.
بات مشهداً عادياً أن ترى أناساً يبحثون عن الطعام بين أكوام النفايات، أو يقفون في صفوف طويلة لاستلام مساعدات في مدينة كانت منذ أمد ليس طويلاً مقصفاً للأغنياء والمشهورين.
بعد تراجع السيولة النقدية، وانخفاض القدرة الشرائية للبناني العادي، برز اقتصاد المقايضة. فمع تضاعف أسعار السلع ثلاث مرات تقريباً مقارنة بالأسعار الأصلية، بدأت صفحات الفايسبوك تمتلئ ببطء، بمشاركات من أشخاص يعرضون مقايضة أغراضهم الخاصة بمواد ضرورية. في أحد تلك العروض، يقايض أحدهم حقيبة من ماركة Oui Oui بكليوغرام واحد من الحليب!
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا