“إن رفض الحوار موجّه ضدّ المواطنين الذين ينتظرون بارقة أمل تؤشّر إلى استقرار أوضاعهم الأمنيّة أوّلاً، ثمّ الماليّة والاقتصاديّة والسياسيّة”. هذه ليست جملة في كتاب مدرّسي للغة العربية خارجة عن أيّ سياق سياسي وزمني، بل جملة وردت في مقدّمة كلمة رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل خلال “اللقاء الوطني” في بعبدا. أي يفترض أن تعبّر، ولو بالحدّ الأدنى، عن واقع معيّن يبني عليه الرجل خطابه.
إقرأ أيضاً: باسيل يفقد “عرّابه” الأميركي.. ولم يعثر على “عرّابه” اللبناني
لكن هل يصدّق باسيل نفسه كلامه؟ هل يعتقد فعلاً أنّ اللبنانيين الذين يعيشون هذه الأيام الانهيار المالي المتسارع كانوا يعلّقون الآمال على لقاء بعبدا؟
الأكيد أنّ الرجل لا يصدّق ما قال. أكثر من ذلك فهو واعٍ أنّ كلامه لا يعكس الواقع، وبالرغم من ذلك فهو يقوله ومستعد لتكراره!
هذا أمر يعكس المدى الذي بلغه اختلال الحياة السياسية وسوء الأداء الديموقراطي للدولة والسلطة السياسيّة وحتّى الإعلام. فلو شعر باسيل أنّ قوله جملة كهذه سيظهره مفصولاً عن الواقع، وربما يثير انتقادات بل سخرية السياسيين خصومه والصحافيين، لكان تردّد في قولها بالحدّ الأدنى أو حذفها من خطابه ونبّه مستشاريه إلى مثل هذا الشطط!
كلام باسيل، وهو رجل سلطة الآن، يعكس نيّة الحكم رسم سقف جديد للمواجهة السياسيّة وتعديل قوانين اللعبة
لكن لم يظهر أنّ الأخير شعر بأيّ حرج في قول ما قال، وهو قال أكثر منه. وهذا ليس سلوكاً شخصياً وحسب، وإن كان الرجل يجيد أدوات الخطاب الشعبوي أكثر من سواه، وإنما هو سلوك سياسيٌ شائع بحيث ما عاد معظم السياسيين، وبالنظر إلى تراجع الممارسة الديموقراطية في البلاد، يحسبون حساباً لقوّة حجتهم وقدرتهم على الإقناع. فالمنافسة السياسية باتت في مكان آخر. لقد أصبح ملعبها قدرة السياسي على شيطنة خصمه وضرب صدقيته ولو عن طريق التصرّف بأدنى درجات الصدقية!
في الواقع، ليست مقاربة خطاب باسيل مسألة أخلاقية بحت تتعلّق بمقدار صدقيّته أو صدقية خصومه. إنّها مسألة سياسيّة بامتياز، إذ تعبّر طبيعة الخطاب السياسي للسلطة عن نهجها للحكم وعن توجّهاتها للتعامل مع اللعبة السياسية. فكلام باسيل، وهو رجل سلطة الآن، يعكس نيّة الحكم رسم سقف جديد للمواجهة السياسيّة، وتعديل قوانين اللعبة السياسية بحيث يصبح أيّ كلام سياسيّ حقيقي وذي معنى، كلاماً يقوله “خونة” و”عملاء”، لمجرّد أنّه موجّه ضدّ سلطة تقول كلاماً بلا معنى، لكنّه بصدوره عنها، وهي التي تمتلك أدوات السلطة، يصبح كلاماً “شرعياً”، تُحدّد على أساسه وطنيّة السياسيين والمواطنين على السواء.
لذا، فإنّ الاصرار على انعقاد “اللقاء الوطني” حتّى بعد مقاطعة فريق سياسي معنيّ بشكل أساسي بموضوعه المفترض أي “منع الفتنة”، يصبح الغرض الوحيد منه تكريس القوانين الجديدة للعبة السياسية والتي بموجبها تحمّل السلطة، بوسائلها المعتادة، هذا الفريق المعارض مسؤولية أخلاقية وسياسية عن أيّ حادث أمني يقع في “مناطقه”.
إذ إنّ “من يعتقد بأنّه برفضه حواراً، يعرّي حكومة أو عهداً أو مجموعة، إنمّا هو يعرّي لبنان من جوهر وجوده، خاصة إذا كان هدف الحوار هو منع الفتنة”، كما قال باسيل نفسه. فالمسألة وفق منظور باسيل ليست محاججة سياسية في دواعي الحوار أو أسباب مقاطعته، وإنمّا تتلخّص بإصرار السلطة على فرز الخريطة السياسية والشعبية بين “وطنيين” لا همّ لهم سوى الحوار لمنع الفتنة، ومنفذّي “أجندات مشبوهة” يرفضون الحوار ويريدون الفتنة.
هكذا يُفهم أصرار باسيل على عقد جلسة حوار و”لو رفضه الآخرون”. ومن هذه الزاوية يمكن فهم تأكيده أنّ الفتنة لن تقع لأنّها تحتاج لطرفين والطرف الأقوى لا يريدها، وأنّه “يكفي أن نعقد العزم ونتوافق فيما بيننا على عدم وقوعها، فلا تقع”.
والحال، فإنّ السلطة بتأكيدها أنّها “الأقوى”، هي تؤكّد انتصارها على خصومها، ويصبح حوارها معهم لتكريس انتصارها عليهم وحسب. وهذه حال أيّ حوار بين منتصرين ومهزومين. فإذا لبّوا الدعوة إلى الحوار، فهم يعترفون بانتصار السلطة عليهم ويستحقّون تالياً صفة “الوطنيين”، وإذا لم يلبّوها فهم ينفّذون “أجندات مشبوهة”، وما معارضتهم للسلطة “الوطنية” سوى “تعرية للبنان من جوهر وجوده”!