إن كان الهاجس الأساسي لمستشار الأمن القومي السابق جون بولتون في كتابه الأخير، هو تفنيد السياسات الخارجية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، وتبيان هشاشة شخصيته القيادية، من أجل خفض احتمالات حصوله على ولاية رئاسية ثانية، فقد كان كتابه حافلاً كذلك بمواقفه من عدد من الدول التي يعتبرها “مارقة”، ومن رؤساء يصنّفهم ديكتاتوريين.
إقرأ أيضاً: بولتون: أردوغان يتكلّم كموسوليني وبوتين متلاعب كذّاب!
اللافت هو تهميشه لبنان في مذكراته، ومعه “حزب الله”. فلم يرد لبنان في الكتاب إلا 11 مرة مع الفهرس، وفي معظم هذه المرّات جاء ذكر لبنان عَرَضاً لدى ذكر البلدان التي لإيران فيها نفوذ وتأثير. ولم يُذكر حزب الله إلا أربع مرات فقط، وذلك في سياقات ثانوية أيضاً، ربطاً بإيران وملفاتها في المنطقة، وعلاقاتها الشائكة مع الولايات المتحدة لا سيما في عهد ترامب وقبله أوباما. وذلك على الرغم من أنّ بولتون، المدافع الشرس عن إسرائيل، لم يكفّ يوماً عن تبرير هجمات تل أبيب على لبنان، في مختلف مواقعه ومناصبه، ولم يترك فرصة دون التحريض على الحزب. بل لا وجود لقانون قيصر في سلّم اهتمامات بولتون في كتابه، مع أنّ القانون المذكور مفصلي في سلسلة العقوبات والضغوط على أبرز حلفاء إيران في المنطقة، أي سوريا الأسد، ولبنان حزب الله!
هل بات مقتنعاً أنّ حزب الله ومعه لبنان لا يستحقّ العناء في غمرة القضايا الكبرى التي تؤرقه؟
جون بولتون الجمهوري المحافظ الذي قضى حياته المهنية موظفّاً رسمياً بدءاً من عهد الرئيس رونالد ريغان وانتهاء بدونالد ترامب، عُرف بمواقفه المؤيدة بقوة لتغيير الأنظمة الاستبدادية، ومعارضة سياساتها في مجالاتها الجيوبوليتيكية. وعليه، أيّد إسقاط الرئيس العراقي صدام حسين عام 2003، وكان له دوره في ترويج حكاية أسلحة الدمار الشامل، حين كان كبير مستشاري الرئيس جورج بوش الابن في شؤون الرقابة على التسلّح والأمن الدولي. وهو كان عضواً فاعلاً في مجموعة المحافظين الجدد التي رسمت دور الولايات المتحدة في القرن الواحد والعشرين، وتحلّقت حول الرئيس السابق بوش الابن، بين عامي 2000 و2008. وهو يؤيد استقلال تايوان عن الصين، وعدم التساهل مع كوريا الشمالية ولا مع إيران، مطالباً في مناسبات عدة بتوجيه ضربات عسكرية استباقية لهذين البلدين. ولا يثق بروسيا فلاديمير بوتين، ولا بتركيا أردوغان. وكان مهتماً حتّى اللحظة الأخيرة بإسقاط الرئيس الفنزويلي مادورو ودعم المعارض غوايدو.
ويُعرف بولتون بمواقفه المؤيدة تقليدياً لإسرائيل، وهو أيّد أخيراً قرار ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس. وفي عام 2006، أثناء حرب تموز، برّر لإسرائيل عدوانها على لبنان، وكان سفير أميركا في الأمم المتحدة، قائلاً إنّ “لإسرائيل الحقّ في الدفاع عن نفسها ضد حزب الله”. وأضاف موضحاً: “من المهمّ عدم الوقوع هنا في فخ التوازن الأخلاقي. فما فعله حزب الله هو خطف جنود إسرائيليين وإطلاق الصواريخ على المدنيين الإسرائيليين الأبرياء. ولا أفهم معنى العبارة بأن الردّ الإسرائيلي كان غير متناسب. فماذا لو كان العكس، وخطفت إسرائيل عنصرين من حزب الله، ثم أطلقت الصواريخ عشوائياً ضد المدنيين اللبنانيين؟”.
أما حزب الله، فقد ذُكر عملياً مرتين فقط، بالارتباط مع إيران، وليس كجهة منفردة
فهل من المعقول تغيّر الأولويات بين بولتون عام 2006 عن بولتون 2018-2019؟ وهل بات مقتنعاً أنّ حزب الله ومعه لبنان لا يستحقّ العناء في غمرة القضايا الكبرى التي تؤرقه؟
بإجراء إحصاء سريع، يتبيّن أنّ بولتون في كتابه كان مهتماً أكثر بإيران كدولة لها امتداداتها في المنطقة (ذُكرت إجمالاً 753 مرة مع الفهرس) وبعدها كوريا الشمالية (ذُكرت 743 مرة)، ثم روسيا (ذُكرت 532 مرة)، فسوريا (ذُكرت 384 مرة)، وفنزويلا (ذُكرت 361 مرة)، وتركيا (ذُكرت 135 مرة). وهذا يكشف بتحليل المضمون، درجة اهتمام بولتون عندما كان مستشار الأمن القومي بالدول الأجنبية ذات الأهمية الماسّة بالأمن الأميركي ومصالح البلاد، أو بأجندة الإدارة الجمهورية في عهد ترامب اختصاراً. وليس للبنان مكان، لا سلباً ولا إيجاباً. فلم يعد في بؤرة الحدث، بل هو تابع لأحداث المنطقة، وليس فيه حكومة معتبرة بالمقياس الأميركي، بل هي حكومة تابعة وخاضعة لاستراتيجيات خارجية.
فما هي الظروف السياسية والسياقية التي ذُكر فيها لبنان وحزب الله في كتاب بولتون؟
ذُكر لبنان كأحد الدول التي تؤثر فيها إيران، أو ذات ارتباط بالحرب في سوريا، أو لعلاقة حزب الله عضوياً بها، كما ذُكر مرتين لدى إيراد تفجير مقرّ المارينز في بيروت عام 1983، في سياقين عام وخاص. أما حزب الله، فقد ذُكر عملياً مرتين فقط، بالارتباط مع إيران، وليس كجهة منفردة. في المرّة الأولى، في سياق الحديث عن دور إيران في سوريا كقوة تقاتل عنها وبواسطتها، أي بالوكالة “proxy”. وفي المرة الثانية، عندما تحدّث بولتون عن حزب الله – لبنان الذي يساند نظام الأسد، وهو القوّة التي صنعها فيلق القدس الإيراني.
لبنان في مذكرات “بولتون” غير موجود تقريباً. وحزب الله، كما لو أنّه ليس لبنانياً، بل إيرانيّ في لبنان.