تتكرّر الدعوات الرئاسية إلى “لقاءات وطنية” في القصر الجمهوري، وتنطلق مع كلّ دعوة أسئلة عن جدوى هذه اللقاءات العابرة لمؤسسات دستورية يفترض أنّها المكان الطبيعي للحوار، وأيّ حوار يتناول القضايا الوطنية، كبيرة كانت أم صغيرة. فعلامَ يرمي رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من هذه اللقاءات، في وقت همس أحد عرّابي “اتفاق الطائف” بأنّه يرمي إلى نعي هذه “المؤسسات”؟
إقرأ أيضاً: “الانقلاب على الطائف”: عن الشهوات والأطماع والأوهام… والغباء!
“الطائفيون” (نسبة إلى إتفاق الطائف) يستغربون هذه الدعوات التي تنبري رئاسة الجمهورية إلى توجيهها من حين إلى آخر. في وقت يتيح الدستور، المنبثق من وثيقة الوفاق الوطني المعروفة بـ”اتفاق الطائف”، لرئيس الجمهورية أن يوجّه رسائل إلى مجلس النواب أو النزول إلى المجلس لطرح أيّ شأن وطني ومصيري. هذه الصلاحية مارسها الرئيس الراحل إلياس الهراوي حين وجه يوماً رسالة إلى المجلس طالباً منه المبادرة إلى البحث في إلغاء الطائفية السياسية انطلاقا مما تنصّ عليه المادة 95 من الدستور التي لم تطبّق حتى اليوم على رغم مضيّ أكثر من 30 عاماً على إقرار الطائف والدستور المنبثق منه.
أحد أبرز المخالفات والخروقات التي يتعرّض لها “اتفاق الطائف” ودستوره هو أنّ مجلس الوزراء لم يعد يجتمع في مقرّه الخاص
أحد ابرز هؤلاء “الطائفيين” هو الرئيس حسين الحسيني، الذي استُبعد من الدعوات إلى لقاء بعبدا “غير آسفٍ” كما ينقل زوّاره عنه. ويردّ على سائليه عن الجدوى من هذا اللقاء بالقول: “إنّهم يلغون المؤسسات الدستورية”… وهذه اللقاءات، في رأي هذا “الطائفي” الذي يعدّ من أبرز عرّابي “الطائف”، ليس لها أيّ صفة دستورية أو قانونية ملزمة، وقرارتها لا يمكن تنفيذها إذا لم تتبنّها المؤسسات الدستورية المعنية. فدستور “الطائف” جعل رئيس الجمهورية في موقع الحَكَم و”الراعي الصالح” لكلّ المؤسسات. فهو “رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن”، وهو “القائد الأعلى للقوات المسلحة الخاضعة لسلطة مجلس الوزراء”. أما السلطة التنفيذية، فأناطها الدستور بمجلس الوزراء مجتمعاً وجعلها سلطة جماعية تشارك فيها كلّ ألوان الطيف السياسي والطائفي والمذهبي اللبناني، بعدما كانت قبل “الطائف” مناطة برئيس الجمهورية “يتولّاها بمعاونة وزراء يختار من بينهم رئيسا يسمى “رئيس الوزراء”، وليس “رئيس مجلس الوزراء” كما هي الحال الآن.
الأخطر في ما يجري، بحسب “طائفيين” (نسبةً إلى اتفاق “الطائف”)، هو أنّ المُراد من هذه اللقاءات خلق مزيد من الأعراف على هامش دستور “الطائف” من شأنها أن تقوّض صلاحيات المؤسسات الدستورية ورؤسائها، ولا سيما منها صلاحيات مجلس النواب ورئيسه، وصلاحيات مجلس الوزراء ورئيسه، إذ إنّ العاملين على إحداث هذه الأعراف، التي تصبح بتكرارها مع الوقت “أقوى من النص الدستوري”، إنّما يستبطنون رغبة باستعادة صلاحيات رئاسة الجمهورية ومواقع أُخرى في السلطة انتزعها منهم “الطائف” الذي قضى بإقامة “دولة المؤسسات”. لكنّها لم تقم كلياً بعد. ويشير هؤلاء إلى أنّ أحد أبرز المخالفات والخروقات التي يتعرّض لها “اتفاق الطائف” ودستوره هو أنّ مجلس الوزراء لم يعد يجتمع في مقرّه الخاص، وأنّ رئيس الجمهورية يصرّ على تقاسم ترؤس جلساته مع رئيس الحكومة متوزّعة بين السراي الحكومي الكبير والقصر الجمهوري، مع العلم أنّ الدستور يعطيه حقّ ترؤس الجلسات عندما يشاء من دون أي يكون له حقّ التصويت على القرارت التي يتخذها المجلس سواء كانت قرارت مصيرية أو عادية، والحاصل أنّ الرئيس يكاد أن يشاء ترؤس كلّ الجلسات دائماً…
مرجعيات سياسية لا تنظر بارتياح إلى لقاء بعبدا، وتقول إنّه إذا كانت الغاية منه تقريب وجهات النظر بين مختلف القوى السياسية، فإنّه بإمكان رئيس الجمهورية النزول إلى مجلس النواب
بل هو تكريس عِرف بعقد الجلسات الحكومية التي تتخذ فيها القرارات المهمة، من تعيينات وغيرها برئاسة رئيس الجمهورية، وكأنه لا يؤتمن على رئيس الحكومة اتّخاذ مثل هذه القرارات في جلسة تنعقد في السراي الحكومي برئاسته، وذلك في عودة بشعة إلى زمن التعاطي المسيحي بعدم ثقة مع رئيس مجلس الوزراء وما يمثّل، وعدم ائتمانه على مصير البلد. فكأنّ البلاد عادت في هذه الحال إلى ما قبل “الطائف”، خصوصاً يوم رفض الرئيس أمين الجميّل قبيل انتهاء ولايته عام 1988 وتعذّر انتخاب رئيس جمهورية جديد، تكليف حكومة برئاسة الرئيس سليم الحص أو تشكيل حكومة برئاسة شخصية سياسية إسلامية أخرى تتولّى صلاحيات رئيس الجمهورية إلى حين انتخاب رئيس جديد، وذهب يومها إلى تأليف حكومة عسكرية سداسية برئاسة قائد الجيش الذي كان العماد ميشال عون، فقاطعها الضباط المسلمون وظلّت بتراء، فيما استمرّت حكومة الحصّ في ممارسة سلطاتها، وأخذ الشارع الاسلامي بشدّة على المسيحيين عدم الثقة بالمسلمين في إدارة شؤون البلد ولو لمرحلة انتقالية.
على أنّ مرجعيات سياسية لا تنظر بارتياح إلى لقاء بعبدا، وتقول إنّه إذا كانت الغاية منه تقريب وجهات النظر بين مختلف القوى السياسية وحضّها على التعاون والتكاتف لإخراج البلاد من الهوة السحيقة الاقتصادية والمالية والنقدية والمعيشية التي سقطت فيها، فإنّه بإمكان رئيس الجمهورية النزول إلى مجلس النواب ومخاطبة ممثلي الامة في جلسة عامة تحضرها الحكومة. فيقدّم ما لديه من أفكار ومقترحات يراها مجدية لإنقاذ البلاد، لأنّ اجتماعه خارج المؤسسات الدستورية مع رئيسي المجلس والحكومة في حضور رؤساء الأحزاب والكتل النيابية لا جدوى منه، بل لا صفة دستورية له في الأساس.