أفادت مصادر مطلعة لـ”أساس” أن قراراً اتُخذ على مستوى قيادتي “الثنائي الشيعي” يقضي بإسقاط فكرة تعيين شركة “كرول” الماليّة للتدقيق في ميزانيّات المصرف المركزي، وذلك عبر امتناع وزير المالية عن توقيع اتفاقية القرار الصادر عن مجلس الوزراء. وهو المقترح الذي تحمّس له طوال الفترة الماضية رئيس الحكومة حسّان دياب ومن خلفه “التيار الوطني الحرّ” ورئاسة الجمهوريّة.
منذ البداية، لم تكن فكرة استقدام الشركة سوى الأداة التي أراد دياب والعهد استعمالها لابتزاز حاكم المصرف المركزي ودفعه نحو الاستقالة، خصوصاً أن مهمّة التدقيق في ميزانيّات المصرف لم تكن تحتاج إلى شركة ماليّة بوجود مفوّض الحكومة لدى المصرف، الذي يُفترض أن يقوم بهذا الدور من تلقاء نفسه بإشراف وزارة الماليّة. وهكذا كان قرار الثنائي المستجدّ بإقصاء شركة التدقيق، خطوة أطاحت بمسار أراد من خلاله العهد ودياب تصوير الحاكم بصورة” “المرتكب الذي تقتفي أثره شركات التدقيق الماليّة تمهيداً لإخراجه من المعادلة.
إقرأ أيضاً: سلامة تراجع في بعبدا… والنزال المقبل على هويّة القطاع المصرفي
في الواقع، يبدو من هذه التطوّرات أنّ رياض سلامة لا يزال ممسكاً بالكثير من الأوراق التي يفاوض بها الجميع. كما يبدو أنّ “الثنائي الشيعي” قد اقتنع بأنّ دياب والعهد مفلسان ولا يملكان الكثير من الخيارات في ما يتعلّق بالتعامل مع الأزمة الماليّة، وهو ما يدفع “الثنائي” باتجاه التفاهم والمقايضة مع سلامة.
في الشكل، جرى التمهيد لإسقاط الفكرة من خلال الحديث عن علاقات الشركة بإسرائيليين، ما سيشكّل خطراً على أمن المعلومات في مصرف لبنان كون مهمّة التدقيق ستتيح للشركة الاطّلاع على بيانات ماليّة حسّاسة. لكنّ خبراء مطلعين من داخل القطاع المصرفي يؤكّدون لـ”أساس” أنّ مسألة علاقة الشركة بإسرائيل لا تتعدّى كونها إخراجاً منمّقاً للقرار الذي جرى اتخاذه لأسباب أخرى لا تتّصل بهذه المسألة تحديداً. خصوصاً أنّه لا يمكن العثور على أيّ شركة استشاريّة ماليّة عالميّة مرموقة لا ترتبط بشكل أو بآخر بأشخاص يحملون الهويّة الإسرائيليّة، بما فيها الشركات الاستشاريّة الماليّة التي لطالما لجأ مصرف لبنان إلى خدماتها للاطلاع والمصادقة على حساباته.
يملك حزب الله حسابات مختلفة تماماً في ما يتعلّق بالعلاقة مع سلامة
لذلك، يبدو أنّ قرار الثنائي نتج عن عوامل مختلفة كليّاً. فمن ناحية، كان برّي من أبرز المتحسّسين من حماسة جبران باسيل وحسّان دياب للإطاحة برياض سلامة، خصوصاً أنّه استشعر باكراً خطورة هذه الخطوة على الوضع النقدي والمالي في البلاد، ومراهقة وطيش هذا النوع من المغامرات غير المحسوبة. ولعلّ برّي كان واضحاً في ردّه على السؤال عن الاتجاه لإقالة سلامة، من خلال القول إنّه لن يقبل بأن “يخرب البلد” على أيامه. ببساطة، يبدو أن برّي مستمر في لعب دور الإطفائي هنا، في مواجهة نهم باسيل لوضع اليد على موقع ماروني بالغ الأهميّة، بهدف جمع المزيد من أوراق القوّة تمهيداً لمعركته الرئاسيّة الأخرى، ولو كلّف الأمر المزيد من التهاوي في الوضع النقدي في البلاد.
من ناحيته، يملك حزب الله حسابات مختلفة تماماً في ما يتعلّق بالعلاقة مع سلامة، ولعلّ الحزب حصل على بعض الإشارات التي طمأنته من ناحية سلامة سواء في ما يتعلّق بضخّ الدولار النقدي عبر شركات الصيرفة، والتي تمثّل السوق الذي يملك حزب الله النفوذ الأكبر فيها، أو في ما يتعلّق بالاستمرار في توفير الدعم لاستيراد المحروقات بمعزل عن جميع الطروحات التي نادت بتغيير آليّة الدعم لخنق عمليّات التهريب. وعلى ما يبدو، تتصل جميع حسابات حزب الله مؤخّراً بهذه المسائل تحديداً، والتي تتمحور حول سبل توفير الدولار النقدي وتمويل الاستيراد دون فرض الكثير من القيود، وخصوصاً بعد دخول قانون قيصر حيّز التنفيذ.
رئيس الجمهوريّة لم يملك الكثير ليتحدّث عنه في لقاء بعبدا عن مسألة الوضع النقدي تحديداً
بالإضافة إلى كلّ ذلك، كان من الواضح أن ثمّة عوامل أخرى دفعت “الثنائي” باتجاه لجم الهجوم على سلامة، وأهمّها استنفاد العهد ودياب جميع خياراتهما في ما يتعلّق بمعالجة الوضع النقدي، أو بمعنى أدق إفلاسهما وعدم امتلاكهما لأيّ حلول قادرة على التعامل مع الأزمة إذا تمكّنا من الإطاحة بسلامة. فمن يسمع دياب خلال اجتماع مجلس الوزراء الأخير في السراي، سيجده يعيد الحديث مجدّداً عن مسؤوليّة حاكم مصرف لبنان ووجود مؤامرة على سعر صرف الليرة، وهو ما يوحي بوضوح أنّ دياب لا يملك أيّ تصوّر أو رؤية لكيفيّة التعامل مع المشكلة. ناهيك عن خوضه في الحديث عن المسألة دون امتلاك الإلمام الكافي بواقعيّة الطروحات التي يتحدّث عنها. مع العلم أن سلامة كان قد حذّره سابقاً من عدم جدوى ضخّ الدولار في السوق إذا لم يترافق ذلك مع خطوات أخرى على المستوى الاقتصادي من عمل الحكومة، وهو ما تبيّن صحّته مؤخّراً.
فريق العهد لا يبدو بوضع أفضل. فرئيس الجمهوريّة لم يملك الكثير ليتحدّث عنه في لقاء بعبدا عن مسألة الوضع النقدي تحديداً، باستثناء الإشارة إلى أثر “العبث بالأمن والشارع” لتحقيق المكاسب عبر “تجويع الناس وخنقهم اقتصاديّاً”. ومن ناحية أداء فريقه السياسي، لا يمكن للمراقب سوى ملاحظة التفاوت الفظيع بين توجّهات كلٍّ من رئيس التيار جبران باسيل وأمين سر تكتّله النيابي إبراهيم كنعان ومستشار رئيس الجمهوريّة شربل قرداحي. كلّ هذا التفاوت يؤكد مجدداً أنّ العهد لا يملك خطّة لكيفيّة التعامل مع الوضع النقدي.
ومع فقدان رئاستي الجمهوريّة والحكومة لأيّ طروحات واقعيّة في ما يخصّ أزمة الليرة، ترتفع أسهم سلامة بعيون “الثنائي” مجدداً، ويصبح الحديث عن إقالته بغياب البدائل ضرباً من العبث. مع العلم أنّ الرجل يتقن فنّ مضاعفة أهميّته ضمن المعادلة، وكيفية إظهار هذه الأهميّة بعناية لمن يعنيهم الأمر. ولعلّ أبلغ دليل على ذلك الاستقبال الذي لقيه سلامة في دارة السفير السعودي وليد البخاري بحضور نائب الحاكم السابق محمد بعاصيري.
لم يتكشّف الكثير عن الزيارة، لكن بمعزل عن النقاشات التي تخلّلتها، كانت المشهديّة كافية لإيصال رسالة بالغة الأهميّة للجميع، مضمونها أنّ الحاكم ما زال يملك الغطاء الإقليمي الذي يخوّله استقدام الدعم المالي الضروري للنهوض عند توفّر الشروط السياسيّة اللازمة لذلك.