سقط “رفع الدعم”.. ووقف التهريب قرار سياسي مفقود

مدة القراءة 6 د


أثار وزير الاقتصاد راوول نعمة زوبعة من التعليقات والمخاوف في الشارع اللبناني طوال اليومين الماضيين، إثر تقدّمه باقتراح قضى برفع الدعم الذي يوفّره مصرف لبنان لاستيراد المحروقات والطحين، واستبداله بآليّة أخرى للدعم وفق نظام القسائم الشرائيّة. لكن بمعزل عن كلّ هذه الضجّة، تفيد مصادر مطلعة داخل مصرف لبنان لـ”أساس” أن فكرة نعمة سقطت باكراً، بعد أن شهرت مرجعيّات سياسيّة عديدة وفي مقدّمها رئيس مجلس النواب نبيه برّي الفيتو الصريح في وجه المقترح. فباختصار، كان من شأن القرار التسبّب بانفجار اجتماعي ومعيشي غير مسبوق في الشارع، وفتح الباب أمام بازار المحسوبيّات في توزيع قسائم الدعم. أما ملف التهريب، فمعالجته تبدأ بالقرار السياسي، لا المالي أو النقدي.

فكرة الوزير ستكدّس اللبنانيين في طوابير استجداء المعونات الموزّعة على شكل قسائم شرائيّة، للتمكّن من شراء الخبز والبنزين

مقترح نعمة يقضي بأن يتوقّف مصرف لبنان عن دعم استيراد الطحين والمحروقات وفقاً للآليّة الحاليّة، التي يقوم بموجبها المصرف ببيع المستوردين الدولارات اللازمة لاستيراد هذه السلع بحسب السعر الرسمي الأساسي المحدّد عند مستوى 1507.5 ليرات للدولار الواحد. وبذلك، سيتم استيراد هذه السلع وتسعيرها للمستهلك وفقاً لسعر الدولار الفعلي في السوق، وهي تسعيرة تتجاوز قيمتها سعر الصرف الرسمي المدعوم بأكثر من 4.5 مرّات. أمّا البديل عن آليّة الدعم هذه، فهو دعم شراء المحروقات من خلال قسائم شرائيّة يتمّ توزيعها لسائقي المواصلات والعائلات المحدودة الدخل، بهدف تغطية الفارق بين السعر المدعوم وسعر السوق. كما يشمل مقترح الوزير دعم شراء الخبز للعائلات المحدودة الدخل أيضاً وفقاً لآليّة القسائم الشرائيّة نفسها، لكن مع إضافة معيار آخر لتحديد قيمة القسائم يتعلّق بعدد أفراد الأسرة.

إقرأ أيضاً: برّي ستر الدولة بعدما “زلطها” استشاريو السراي

ببساطة، كانت فكرة الوزير ستكدّس اللبنانيين في طوابير استجداء المعونات الموزّعة على شكل قسائم شرائيّة، للتمكّن من شراء الخبز والبنزين. مع العلم أنّ جميع التجارب السابقة مع هذا النوع من المعونات لا تبشّر بالخير. إذ لا يوجد أيّ ضمانة تؤكّد عدم تحوّل هذه القسائم الشرائيّة إلى وسيلة لتوزيع “التنفيعات” على مناصري الأحزاب والمحسوبين عليها. خصوصاً أن تجربة معونة الـ 400 ألف ليرة التي قرّرت الحكومة توزيعها على العائلات الأكثر حاجة خلال أزمة كورونا ما زالت ماثلة في الأذهان، مع كلّ ما شهدته هذه التجربة من خلافات على تحاصص هذه المساعدات وهويّة المستفيدين منها في كلّ منطقة.

جميع تفاصيل مقترح رفع الدعم تدلّ على مراهقة في التعاطي مع الملف بحسب بعض المصادر المطلعة على النقاشات الحكوميّة الدائرة حوله

وما يعزّز كلّ تلك المخاوف في مقترح نعمة هو عدم وجود معيار واضح لتحديد “محدودي الدخل” الذين سيستفيدون من هذه المعونات. وهو ما يفتح الباب أمام كلّ أبواب الاستنسابيّة في توزيعها، ويثير المخاوف من إمكانيّة عدم شمولها الغالبيّة الساحقة من اللبنانيين المستفيدين حاليّاً من هذا الدعم.

لكن بمعزل عن هذه النقطة، ثمّة مسألة بالغة الأهميّة ينبغي الالتفات لها هنا. فالدول التي تلجأ عادةً إلى رفع الدعم عن استيراد المحروقات، تقوم بالمقابل بتوجيه هذا الدعم لعمليّات شراء المحروقات من قبل وسائل النقل المشترك، وهو ما سعى الوزير شكليّاً إلى فعله في مقترحه الذي ضمّ سائقي النقل العام إلى لائحة المستفيدين من القسائم الشرائية. لكنّ الوزير لم يأخذ بعين الاعتبار عدم وجود شبكات نقل عام يستطيع من خلالها اللبنانيون الاستفادة من هذا الدعم، وتلافي الأزمة المعيشيّة التي ستنتج عن الارتفاع القياسي في أسعار المحروقات بعد رفع الدعم عنها.

أمّا خطورة القرار الأهم، فتكمن تحديداً في أثرها على مدى توفّر المحروقات والطحين في الأسواق. فعدم توفير الدولارات للمستوردين بالسعر المدعوم من احتياطات المصرف المركزي، ستعني حكماً حاجة هؤلاء إلى التوجّه إلى السوق السوداء أو الصرّافين لتوفير الدولارات المطلوبة للاستيراد، وهو ما يثير المخاوف من إمكانيّة حصول شحّ في المحروقات والخبز في الأسواق نتيجة الصعوبة في تأمين هذه الدولارات. مع العلم أن آليّة الدعم الحاليّة المعتمدة من مصرف لبنان تشترط تأمين المورّد 15% من قيمة الاستيراد بالدولار النقدي، فيما يؤمّن مصرف لبنان الدولارات الباقية من احتياطاته. وإذا كانت الشركات المستوردة للطحين والمحروقات تعاني اليوم من أزمة كبيرة في تأمين نسبة الـ15% هذه، فكيف ستتمكّن لاحقاً من تأمين كامل المبلغ المطلوب لاستيراد هذه السلع بالدولار النقدي؟

تسرّع الوزير في مقترحه يبدو واضحاً أيضاً عند مقاربة آثاره النقديّة. فالطلب من شركات استيراد المحروقات والطحين التوجّه إلى السوق لتأمين الدولارات سيعني أيضاً مضاعفة الطلب على الدولار في الأسواق، وهو ما سيضاعف من أزمة سعر الصرف القائمة حاليّاً. علماً بأن حجم الدولارات المطلوبة لاستيراد هذه السلع كبير قياساً بتوازنات العرض والطلب القائمة حاليّاً في السوق، وهو ما سيدفع سعر صرف الليرة إلى التهاوي بشكل غير مسبوق.

باختصار، انطوت جميع تفاصيل مقترح رفع الدعم على مراهقة في التعاطي مع الملف بحسب بعض المصادر المطلعة على النقاشات الحكوميّة الدائرة حوله. علماً أنّ القرار كان سيعني ببساطة مضاعفة القيمة التي تدفعها الأسر شهريّاً على استهلاك الوقود والخبز، وهو ما كان سيهدّد قدرتها على الاستمرار بتوفير أبسط متطلّبات الحياة. وأمام هذا الواقع، لن تكن الحكومة ولا القوى السياسيّة المنضوية فيها، ولا حتّى البلاد بشكل عام، قادرة على استيعاب البركان الشعبي الذي يمكن أن ينفجر نتيجة هذا القرار. ولذلك، كان نسف مقترح نعمة ضرورة لتفادي سيناريوهات كارثيّة لا يمكن لأحد تحمّلها.

في ما يتعلّق بأزمة التهريب، التي مثّلت أحد الأسباب الموجبة التي تحدّث عنها نعمة للخروج بهذا المقترح، فمصادر مصرف لبنان نفسها تؤكّد أنّ الاستمرار في توفير الدعم، بمعزل عن هذه القضيّة، كان قراراً سياسياً بالدرجة الأولى. ويؤكّد هذا الأمر سير قوافل الصهاريج السوريّة على مرأى من الأجهزة الأمنيّة كافّة على طريق الشام. مع العلم أنّ توقّف الدعم الرسمي لن يعني توقّف هذه الظاهرة، خصوصاً إذا أدّت العقوبات المفروضة على النظام السوري إلى مفاقمة شحّ المحروقات في السوق السوري.

وبالتالي، فالخروج بأيّ معالجة لهذه المسألة ينبغي أن ينطلق من قرار واضح على المستوى السياسي لوقف هذه الظاهرة، قبل اللجوء إلى قرارات ماليّة يمكن أن تضرب المستوى المعيشي للبنانيين على النحو الذي قام به نعمة.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…