يبدو أنّ احتياطي مصرف لبنان من العملة الأجنبية لم يسلم من منطق المحاصصة هو الآخر. فقد أصدرت نقابة الصرّافين أمس الإثنين تعميماً، بالاتفاق مع مصرف لبنان والحكومة، ينظّم من خلال الصرّافين آلية سدّ حاجات المواطنين الشخصية، وحاجات شركات المواد الغذائية والمستلزمات الطبية من الدولارات. التعميم يستثني الشركات المستوردة لسلع “السلّة الغذائية” التي نشرت لائحة بها وزارة الاقتصاد نهاية شهر أيّار الفائت وألزمت المصارف بها، في خطوة تزيد من حجم تهميش القطاع المصرفي، وتكرّس دور الصرّافين أكثر في الدورة الاقتصادية، وسط غياب شبه تام لوزارة الاقتصاد عن دورها في مراقبة أسعار السلع وضبط الاستيراد.
إقرأ أيضاً: خطة الحكومة تُحوّل الشحّاذين إلى “صرّافين غير شرعيين”
التعميم يحدّد حالات كثيرة تخوّل أصحابها من الأفراد العاديين الحصول على دولارات من الصرّافين بالسعر الذي تحدّده النقابة يومياً (3900/3850 ليرة اليوم)، ويضع سقفاً شهرياً محدّداً لكلّ حالة. فسقف رواتب العمال في الخدمة المنزلية مثلاً حدّده التعميم بـ300 دولار شهرياً، وكذلك سقف تذكرة السفر حُدد بـ1000 دولار، والقسط الجامعي خارج لبنان بـ2500$ شهرياً، وبدل الإيجار السكني الشهري خارج لبنان بـ1000$ وذلك على غرار القسط المنزلي الشهري داخل لبنان، وأخيراً الدين الداخلي الذي حُدّد بـ500$. فإن كنتَ مديناً بالدولار، يمكنك الحصول على مبلغ شهريّ لسدّ الدين شرط إبراز عقد الدين.
أما الشركات فحُصرت بتلك التي تستورد المواد الغذائية والمستلزمات الطبية، شرط ألّا تكون ضمن شركات “السلّة الغذائية” التي حدّدتها وزارة الاقتصاد ومصرف لبنان. ما يعني أنّ المصارف باتت متخصّصة بنوعية شركات تعطيها “دولارات مدعومة” من مصرف لبنان، والصرّافون بات لهم حصّتهم من الأفراد والشركات.
أما “السلّة الغذائية” التي وضعتها وزارة الاقتصاد نهاية شهر أيّار الفائت والمستثناة سلعها من التعميم، فتضم المواد الأولية الخاصة بالصناعة والزراعة، مثل السكر والأرز، ومواد صناعة الزيوت (صويا حب، زيت دوار الشمس الخام) والحبوب (عدس، حمص، فاصوليا، فول، السمسم، الخميرة)، والحليب البودرة، ومعلبات التونة، والمواشي الحية، وأعلافها (شعير، ذرة، كسبة الصويا، تفل الشمندر)، والأدوية واللقاحات البيطرية للمواشي والدواجن، وصناعات الألبان والأجبان، والجراثيم الخاصة بصناعة اللبن، والأسمدة والبذور والشتول. وهذا يعني أن كلّ السلع الأخرى تدخل في صلب تعميم الصرّافين.
عضو مجلس إدارة نقابة الصرّافين محمود حلاوي، المكلّف الحديث باسم النقابة قال لـ”أساس”، إنّ التعميم “حاز على موافقة المصرف المركزي والحكومة” خلال الاجتماعات التي عُقدت من أجل ضبط سعر الصرف، وهو يأتي في إطار “دعم السلع التي تعني المواطن مباشرة”.
الصرّافون يدخلون إلى التحقيق صباحاً، ويخرجون مساءً بسبب “ضيق في التنفّس” على ما كشف مصدر قضائي لـ”أساس” الأسبوع الماضي، وذلك بتدخّلات سياسية علنية
الغريب في هذه الآلية يخصّ الشركات، التي ستحصل على دولارات من الصرّافين بعد أن تقدّم مستندات محدّدة، من بينها السجلّ التجاري، والإذاعة التجارية، ومستندات “آخر طلبية” أو الـPro forma التي تحدّد نوعية السلع. على سبيل المثال، فإذا قصد تاجر أحد الصرّافين من أجل شراء دولارات لاستيراد العلف (وهي سلعة ضمن السلّة الغذائية المحدّدة من وزارة الاقتصاد) فإنّ الصرّاف سيسأله عن الـPro forma، وبالتالي سيحيله إلى المصارف لأنّ العلف ليس من تخصّص الصرّافين. بمعنى آخر، فإنّ هذه الآلية التي سيبدأ تنفيذها اليوم، ستُقحم الصرّافين بما ليس من اختصاصهم، لأنّهم باتوا مطالبين بالتدقيق في مستندات السلع ودهاليز التصنيفات، وهي إجراءات تدخل في صلب عمل المصارف عادة.
الأغرب من ذلك، أنّ الشركات “المصنّفة” ضمن حصّة الصرّافين ستكون مضطرّة إلى تقديم المستندات المطلوبة منها مرّتين: المرة الأولى للحصول على دولارات من الصرّاف والمرّة الثانية لفتح الاعتماد في المصرف، لأنّ الأخير هو الجهة المولجة بالتواصل مع الخارج… وهذا يطرح علامات استفهام وأسئلة من صنف: لماذا لا تُلَزّم هذه الآلية للمصارف منذ البداية طالما أنّ هذه الأموال ستذهب إليها Fresh money في نهاية المطاف من أجل فتح الاعتمادات؟
قد يجيب إنّ هذه الدوّامة ستوصل بالتأكيد إلى “تسريب” كميات من الدولارات، خارج المسارب المعلنة، بتواطؤ، أو “تطنيش” أو عن قصد. لأنّ إجراءات المصارف تكون عادةً أكثر حزماً وحسماً وتدقيقاً. ولأنّ المصارف “تخاف” من تجاوز “القوانين” أو “الأعراف” النقدية والمالية، لأنّ الثمن لن يكون أقلّ من “قانون قيصر” أو تجربة “بنك الجمّال”. في حين أنّ الصرّافين يدخلون إلى التحقيق صباحاً، ويخرجون مساءً بسبب “ضيق في التنفّس” على ما كشف مصدر قضائي لـ”أساس” الأسبوع الماضي، وذلك بتدخّلات سياسية علنية.
أما ردّ حلاوي الرسمي فهو أنّ الشركات “اعتادت” على التعامل مع الصرّافين: “بتنا نملك ملفات هذه الشركات منذ بدايات الأزمة، فقد رحنا نؤمّن لهم الدولارات من السوق وبتنا شركاء في هذه العملية”. وهو كلام لا يجيب عن التساؤلات بشكل مباشر، لكنّه يفسّر إلى حدّ بعيد نيات بعض الجهات السياسية التي تسعى إلى تمكين الصرّافين، عبر مدّهم بحصّة محدّدة من دولارات مصرف لبنان. المصرف الذي يبدو أنّه “أذعن” للأمر، تكريساً لنهج المحاصصة السائد في كلّ شيء في لبنان. أما عن المبلغ المرصود لهذه الآلية، فيؤكد حلاوي أنّه لن يتخطّى الـ4 ملايين دولار يومياً، وهي الأموال التي يحوّلها المغتربون من الخارج عبر شركات التحويل، لأنّ مصرف لبنان يرفض المسّ بما يملك من احتياطي. ويوافق حلاوي على أنّ هذا الرقم صغير نسبياً، ولن يستطيع تلبية الطلب على الدولار، لكنّ الخطة في نظره تقضي بـ”ترشيق الطلب وليس تلبيته”. و4 ملايين يومياً، تعني 120 مليون دولار شهرياً “كاش”، يرتفع احتمال “تهريب” جزء منها، فيما هو احتمال معدوم ومستحيل في المصارف. بالطبع عدا عن تهريب المازوت والطحين وغيرها على الحدود، وبمؤازرة أمنية.
أليست وزارة الاقتصاد مطالبة بوقف الاستيراد كلياً في البداية، ثم فتحه أمام السلع الضرورية النافدة من أجل حماية الكتلة الدولارية؟
وبات اللبنانيون يعرفون جيّداً “اللعبة” أمام محلات الصيرفة. وقليلون “حصلوا” على حصّة من الدولارات خلال الأسبوع الفائت. فأين ذهبت الدولارات؟
يقول حلاوي إنّ قوّة الصرّافين تكمن في صلاحية “تحديد حجم الدولارات” التي ستُقطّر إلى التجّار بالقطارة. ولنجاح هذا الأمر، يشترط حلاوي الحصول على مساعدة وزارة الاقتصاد، من خلال “إلزام التجّار بتسعيرة سعر الصرف” التي يضعها الصرّافون يومياً (3900/3850 لليوم) في تسعير سلعهم. فإذا تمكنت الوزارة من ذلك “سيمتنع التجّار عن شراء الدولارات من السوق السوداء” (سعر صرف الدولار فيها تجاوز 6 آلاف ليرة اليوم) لأنّهم سيعجزون عن التسعير بموجبها، وسينتظرون حصولهم على كامل الدولارات بالسعر اليومي الذي تحدّده النقابة من أجل إتمام الصفقة. هذا الانتظار سيحدّ حكماً من حجم الاستيراد وسيرشّقه مع الوقت في نظر حلاوي، الذي سألناه: لما لا تناط هذه الآلية بوزارة اللإقتصاد؟ فأكّد أنّ الوزير راوول نعمة “أبدى موافقته على إشراك الوزارة في هذه الآلية” من خلال منح الصرّافين موافقة مسبقة على فواتير التجار قبل مدّهم بالدولارات، لكنّه افترض أنّ يكون نعمة “بحاجة إلى موافقة مجلس الوزراء” للسير في الآلية، من دون أن يخفي حلاوي “ريبة” الوزارة من اتهامها باعتماد نمط “الاقتصاد الموجّه” في هذا الظرف الدقيق… وكأنّ نفاد الدولارات من السوق اللبناني، سيكون أقل وطأة من توجيه تهمة من هذا الصنف إلى الوزير أو الوزارة.
ألم يحن الوقت لتنكبّ الحكومة ووزارة الاقتصاد على إعادة النظر في فاتورة الاستيراد كاملةً؟
أليست وزارة الاقتصاد مطالبة بوقف الاستيراد كلياً في البداية، ثم فتحه أمام السلع الضرورية النافدة من أجل حماية الكتلة الدولارية؟ مسؤولية وزارة الاقتصاد اليوم محصورة بضرورة تفعيل جهاز مديرية “حماية المستهلك” التي مهمّتها مراقبة أسعار السلع المحلية كما يجب، وليس الشعور بالخجل أو الخوف من وضعها في دائرة الاتهام. لأنّ ترشيق الاستيراد بواسطة تحاصص دولارات المصرف المركزي ليس حلاً، وإنّما مشكلة اقتصادية إضافية ربما تحاكي تطلّعات “حزب الله” الذي يسيطر على قرار الحكومة، ويتوق إلى محاصرة القطاع المصرفي وتفريغه من مضامينه… وها هو في ما يبدو يحصل على ما يريد، أو على الأقلّ يحصل على “هامش سماح” أو “ملعب جانبي” عنوانه وحجمه 120 مليون دولار شهرياً.