منذ أن تحدّث الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله عن الاتجاه شرقاً كعنوان للمعالجات التي يمكن الذهاب إليها في سياق الأزمة الاقتصاديّة اللبنانيّة، أصبحت الفكرة هي الشغل الشاغل للدائرين في فلك محور الممانعة في لبنان. لكنّ الدخول في تفاصيل الحلول التي يُتداوَل بها تحت هذا العنوان، يظهر أنّ ما يدور الحديث حوله كمعالجات، لا يزال بعيداً كلّ البعد عن بديهيّات علم الاقتصاد ومبادئه، وذلك بمعزل عن كلّ الإشكاليّات السياسيّة التي تحيط بهذا الطرح.
يبدو من الواضح أنّ خطاب “الاتجاه شرقاً” لا يستهدف فعلاً طرح معالجات واقعيّة للأزمة الاقتصاديّة اللبنانيّة، التي تبدأ معالجتها أولاً بتصحيح الثغرات الكبيرة القائمة في بنية النموذج الاقتصادي اللبناني نفسه. وهي مهمّة لم تبدأ بعد، ويُفترض أن تتحمّل مسؤوليّتها بالدرجة الأولى الحكومة المحسوبة على محور الممانعة نفسه. وعمليّاً، من الواضح أنّ مطلقي أفكار الانفتاح على الشرق أنفسهم يدركون عدم واقعيّة هذه الطروحات، وعدم اتصالها بالمعالجات المطلوبة اليوم، خصوصاً أن تناقضها مع بديهيّات الاقتصاد مسألة جليّة للعيان. ولذلك، يبدو أن ما يريده محور الممانعة من هذا الخطاب مجرّد التنصّل من مسؤوليّة ما يجري على الساحة الاقتصاديّة اللبنانيّة، عبر القول إنّ هذا المحور امتلك حلولاً لم يُؤخذ بها لخوف لبنان من نفوذ “الشيطان الأكبر”.
إقرأ أيضاً: بوليفار فنزويلي وتومان إيراني على طاولة بعبدا
فأحد الأفكار التي جرى الحديث عنها، كانت اللجوء إلى عمليّات التبادل بالعملات المحليّة. وهذا النوع من العمليّات يمكن أن يتمّ عبر شراء سلع من الخارج بالليرة اللبنانيّة وفقاً لتفاهمات خاصّة، كما اقترح نصر الله نفسه في خطابه حين تحدّث عن إمكانيّة شراء المحروقات من إيران بالليرة اللبنانيّة بصرف النظر عن العقوبات المترتبّة على هذا القرار. كما يمكن أن يحصل ذلك من خلال توقيع اتفاقيّات تتبادل فيها دولتان كميّة معيّنة من الأموال بعملتيهما المحليّة، بهدف استخدام هذه الأموال في العمليّات التجاريّة بين الدولتين. أما الهدف، بحسب المتحمّسين لهذه الأفكار، فهو تخفيف الطلب على الدولار، والحدّ من تهاوي المستوى المعيشي للبنانيين الناتج عن انهيار سعر صرفه.
كيف سيوفّر لبنان ما يحتاجه من عملات أجنبيّة أخرى لتمويل حاجاته الأساسيّة الأخرى كالقمح والدواء وغيرها؟
المشكلة في هذا المنطق هو اعتباره مسألة الدولار وسعر الصرف المصدر الأساسي للأزمة. فعمليّاً، تكمن المشكلة الأساسيّة في بنية الاقتصاد اللبناني، الذي لا ينتج ما يكفي للحصول على الدولار أو أيّ عملة أجنبيّة كفيلة بتمويل وارداته، فيما استنزف النموذج الاقتصادي السابق قدرته على توفير العملة الأجنبيّة من خلال استقدام التحويلات إلى المصارف وتضخيم حجم مديونيّة الدولة ومصرف لبنان. وبذلك، تصبح أزمة تهاوي سعر الصرف مجرّد عارض من عوارض أزمة النموذج الاقتصادي نفسه.
ولهذا السبب تحديداً، ستواجه فكرة التعامل مع الدول الأخرى من خلال العملات الأخرى الإشكاليّة نفسها. فإذا قام لبنان بشراء المحروقات من أيّ دولة أجنبيّة كإيران بالليرة اللبنانيّة، ما هي السلع التي ستستطيع إيران شراءها من لبنان بالليرات الناتجة عن هذا التبادل؟ ولو افترضنا أن لبنان سيخصّص صادراته القليلة لتمكين إيران من استخدام الليرات الناتجة عن هذا التبادل، فكيف سيوفّر لبنان ما يحتاجه من عملات أجنبيّة أخرى لتمويل حاجاته الأساسيّة الأخرى كالقمح والدواء وغيرها؟ باختصار، لا تعالج هذه الطروحات حكماً أيّاً من المشاكل التي تدفع بسعر الصرف إلى التهاوي اليوم، لا بل تعاني هذه الطروحات من نفس عوامل التأزّم التي تضغط على سعر صرف الليرة اليوم.
الصين اليوم ليست سوى واحدة من الدول التي ستبحث عن الفرص المربحة لها في السوق بمجرّد تهيؤ المناخ المناسب للاستثمار
الفكرة الثانية، التي جرى التداول بها بانبهار، كانت استقدام المشاريع الصينيّة، على طريقة الـBOT، وهي فكرة أشار لها السيد حسن نصر الله في خطابه أيضاً. في الواقع، لا يحمل الاهتمام الصيني بهذا النوع من الاستثمارات أي جديد بالنسبة إلى لبنان، خصوصاً أن خطّة استثمار رأس المال، التي حملها لبنان إلى مؤتمر “سيدر”، كانت تعجّ بعشرات المشاريع الاستثماريّة القائمة على مبدأ الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وهي مشاريع حظيت باهتمام كبير من الكثير من الدول الأجنبيّة وعلى رأسها فرنسا وألمانيا. مع العلم أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أجرت منذ نحو عامين زيارة على رأس وفد من رجال الأعمال وكبار الشركات الصناعيّة الألمانيّة، في محاولة لتلمّس الفرص القائمة في هذا المجال.
وبذلك يمكن القول إنّ لبنان لم يعانِ فعليّاً من قلّة اهتمام المستثمرين الأجانب بهذا النوع من المشاريع. والصين اليوم ليست سوى واحدة من الدول التي ستبحث عن الفرص المربحة لها في السوق بمجرّد تهيؤ المناخ المناسب للاستثمار. لكنّ ما عرقل إنطلاق عجلة هذه المشاريع لم يكن سوى الانهيار الحاصل في القطاع المالي، والذي يجعل البلاد غير مهيّأة لاستقبال هذا النوع من الاستثمارات، خصوصاً أن أيّ شركة أجنبيّة لن ترغب بتوظيف أموالها في مشاريع ستهدّد قيمة عائداتها الانهيارات المتتالية في سعر صرف الليرة، وشحّ العملة الصعبة في البلاد. كما عرقل قيام الكثير من مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، الخلافات حول تحاصص المشاريع وخصوصاً في قطاع الكهرباء، هو ما بات يمثّل أحد العوامل التي تنفّر الكثير من الاستثمارات الأجنبيّة.
وبمعزل عن العوامل المتعلّقة بالسوق اللبناني، ثمّة ما ينبغي الإشارة إليه في ما يتعلّق بالدور الصيني تحديداً. فالاندفاع الصيني نحو الاستثمار في البنى التحتيّة، وتحديداً في قطاع المواصلات، يمثّل منذ 2013 جزءاً من مبادرة الحزام والطريق، التي تستهدف ربط الصين بالعالم من خلال استثمار مليارات الدولارات في البنى التحتيّة على طريق الحرير الذي يربطها بالقارة الأوروبيّة. لكنّ هذه المبادرة تحديداً وجميع استثماراتها باتت محل مراجعة من قبل الصين نفسها، خصوصاً بعد تعثّر عدد كبير من هذه الاستثمارات بعد أزمة كورونا نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصاديّة في الدول النامية التي كانت تستهدفها هذه المبادرة. كما دخلت الصين في مسار إعادة النظر بتوسّع مشاريعها هذه نتيجة الضغوط الاقتصاديّة التي تعرّضت إليها مؤخّراً، بعد تعرّض إنتاجها المحلّي لكثير من النكسات نتيجة تفشّي وباء كورونا فيها. فهل ستجد الصين نفسها مهتمّة اليوم بإنفاق المليارات على مشاريع في بلد تشوبه أعلى مستويات المخاطر الاستثماريّة نتيجة نكبته الماليّة والاقتصاديّة؟
“الاتجاه شرقاً” ليس نظرية اقتصادية. هو “نكاية” سياسية ليس أكثر.