“الثالثة لم تكن ثابتة” في محاولات السلطة لإقالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة منذ بداية ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون والتي بلغ عددها ثلاثة حتى الآن وكلها باءت بالفشل.
تبيّن أنّ إقالة الرجل المتربع على عرش النظام المصرفي والمالي اللبناني منذ أيّام الرئيس الشهيد رفيق الحريري، تبين أنّ إقالته ليست بالسهولة التي تراءت في لحظة ما لعهد الرئيس ميشال عون في بداياته، وذلك لحسابات اختلط فيها الطموح الرئاسي لدى البعض بالرغبة في الاستحواذ على القرار المصرفي والمالي الذي تمسك به “الحريرية السياسية” حسب زعم “العهد العوني” منذ العام 1992 (بعد تولّي الحريري الأب رئاسة الحكومة للمرة الأولى).
إقرأ أيضاً: مصرف “حاكم لبنان”
وسلامة هو الحاكم الخامس لمصرف لبنان منذ تأسيسه عام 1964. جاء إلى الحاكمية في الأول من آب 1993 خلفا للشيخ ميشال الخوري نجل الرئيس بشارة الخوري، وذلك بتأييد الحريري الأب. ترك سلامة موقع نائب رئيس شركة “ميريل لينش” المالية العالمية في باريس التي عمل فيها منذ تخرّجه من الجامعة الأميركية في بيروت حائزاً إجازة في الاقتصاد، وقد أعيد تعيينه حاكماُ لمصرف لبنان المركزي أربع مرّات متتالية، في أعوام 1999 و2005 و2011 و2017، ولا يزال…
المحاولة أولى
المحاولة الاولى لإقالة سلامة حصلت في مطلع عهد عون عام 2017 مستظلّة بما سُمّي “التسوية الرئاسية”، وبتحريض من رئيس “التيار الوطين الحرّ” جبران باسيل الطامح لرئاسة الجمهورية والذي يجد في سلامة مرشّحاُ جدياً حظوظه كبيرة، خصوصا أنّ اسمه طرح للرئاسة منذ انتهاء ولاية الرئيس الراحل الياس الهراوي وفي خلال كل الاستحقاقات الرئاسية اللاحقة ولا يزال مطروحاً إلى الآن. لكنّ تلك المحاولة فشلت وانتهت بإعادة التجديد لسلامة بالإجماع لستّ سنوات جديدة. إذ لم يتوافر التوافق السياسي المطلوب على هذه الإقالة بين المرجعيات الرسمية والقوى السياسية المشاركة في السلطة، وكذلك لعدم توافر شخصية بكفاية سلامة وخبرته تستطيع قيادة السفينة المالية والمصرفية في بلد كانت ديونه يومها تفوق الثمانيين مليار دولار (عام 2017).
زاد في الطين بلّة أنّ تقديرات الحكومة للخسائر جاءت متناقضة، ارتفاعاً بما يفوق المئة مليار دولار مع أرقام مصرف لبنان التي جاءت دون الثمانين ملياراً
ولأنّ الجميع كان يؤيد سياسة سلامة المالية فقد نجح الرجل في تحقيق الاستقرار في سعر العملة الوطنية التي كانت تدهورت في أيار 1992 أيام حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي، حين تجاوز يومها سعر الدولار الاميركي ثلاثة آلاف ليرة ما أدّى إلى سقوط حكومة “الأفندي” بفعل حراك شعبي شهده الشارع يومها وسُمّي “ثورة الدواليب”، ليتولّى الرئيس رفيق الحريري للمرة الأولى رئاسة الحكومة بإجماع وطني لافت، ويضع البلاد على سكة التعافي المالي والاقتصادي عبر “خطة النهوض الاقتصادي” في ظلّ تعاون وثيق مع مجلس نيابي تولى رئاسته للمرة الأولى يومها أيضاً رئيس حركة “أمل” نبيه بري الذي ما زال يجدد انتخابه في هذا الموقع إلى الآن.
وقد بدأ سلامة يواجه المتاعب بعدما توترت العلاقة بينه وبين حزب الله بسبب تطبيقه القانون الأميركي لمكافحة الإرهاب وتبييض الأموال الذي يفرض عقوبات مالية على الحزب. لكنه استمرّ في سياساته وهندساته المالية الهادفة إلى الحفاظ على سعر العملة الوطنية والاستقرار المالي إلى أن وقعت الواقعة في خريف العام الماضي بعيد اندلاع ثورة 17 تشرين. حينها بدأت حملة عليه تحمّله المسؤولية عن الانهيار المالي والاقتصادي بفعل السياسات التي انتهجها، وقد دافع عن نفسه في هذا الصدد ولا يزال.
المحاولة الثانية
وقبيل نيل حكومة الرئيس حسّان دياب الثقة وبعدها انطلقت محاولة ثانية لإقالة سلامة أجمع عليها العهد والحكومة وحزب الله، وذلك تحت وطأة الإذلال الذي تعرض له اللبنانيون من مودعين وموظفين على أبواب المصارف، حيث كانوا ولا يزالون لا يحصلون إلا على الفتات من ودائعهم أو رواتبهم الموطّنة في المصارف، في وقت بدأ سعر الدولار يرتفع من ألف وخمسمئة ليرة إلى ما يفوق الألفين ثم ثلاثة آلاف ليرة…
ولاحقا زاد في الطين بلّة أنّ تقديرات الحكومة للخسائر جاءت متناقضة، ارتفاعاً بما يفوق المئة مليار دولار مع أرقام مصرف لبنان التي جاءت دون الثمانين ملياراً، ما أربك المفاوض اللبناني مع صندوق النقد الدولي الذي يلحّ على تقديم أرقام صحيحة وفعلية له لكي يبني على الشيء مقتضاه في شأن التعاطي مع أزمة لبنان المالية والاقتصادية. هذا أيضاً في وقت تضامنت جمعية مصارف لبنان في الموقف مع سلامة، وطرحت خطة إصلاحية في مواجهة الخطة التي أقرّتها الحكومة، لتنطلق مروحة اجتماعات بين الحكومة وبين مصرف لبنان والقطاع المصرفي عموماً، انتهت بإدخال الحاكم سلامة شريكاً أساسياً في المفاوضات مع صندوق النقد بعدما كان المطلوب إقالته.
المحاولة الثالثة
أما المحاولة الثالثة لإقالة سلامة فحصلت في الآونة الأخيرة غداة التعيينات المالية التي أقرّها مجلس الوزراء وشملت نواب حاكم مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف وهيئة الأسواق المالية، وجاءت محاصصة جديدة بين القوى السياسية، وأثارت غضب الشارع في بيروت والمناطق وتفاقم هذا الغضب نتيجة ارتفاع جنوي في سعر صرف الدولار أمام الليرة، لامس سبعة آلاف ليرة في السوق السوداء وتجاوز الأربعة آلاف لدى الصرّافين.
يعلّق أحد السياسين على ما جرى من محاولات حكومية لإقالة سلامة، بأنّ المحاولة الثالثة كادت أن تأتي بنتيجة عكسية، لأنّ الحكومة كادت تسقط في الشارع، أو تقيل نفسها
في ضوء هذا الواقع استنفر رئيسا الحكومة والجمهورية وقرّرا عقد جلسة استثنائية يوم الجمعة من الأسبوع الماضي لمجلس الوزراء، على جولتين، صباحاً في السراي الحكومي وبعد الظهر في القصر الجمهوري وعلى رأس جدول أعمالها إقالة حاكم مصرف لبنان. لكن ما إن بدأ النهار حتى تبيّن للسراي وبعبدا أنّ “روما من تحت غير روما من فوق”، وأنّ “الفيل بدو فيلة”… وعادت القوات إلى قواعدها مظفرة سالمة “فلا أُقيل سلامة ولا من يقيلون، وإنّما تقرر استئناف التعاون معه، خصوصاً بعدما رفض رئيس مجلس النواب نبيه برّي وقيادات ومرجعيات سياسية أخرى فاعلة إقالته. إذ تخوّف هؤلاء من هذه الخطوة أن تكون قفزة في المجهول تدفع بسعر الدولار إلى ارتفاع جنوني وتعطل المعالجات والمحاولات الجارية لضمان أموال المودعين المجهولة المصير في غياهب ديون الدولة لمصرف لبنان والمصارف والتحويلات المالية الضخمة إلى الخارج، في وقت لم تحقّق الحكومة أي إنجاز في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي وغيره للبدء في وقف الانهيار الاقتصادي والمالي.
يعلّق أحد السياسين على ما جرى من محاولات حكومية لإقالة سلامة، بأنّ المحاولة الثالثة كادت أن تأتي بنتيجة عكسية، لأنّ الحكومة كادت تسقط في الشارع، أو تقيل نفسها، وهي لا تزال مهدّدة بهذا المصير حيث أنّها لم تتّخذ أي قرار إلا وعادت عنه باستثناء نجاحها في احتواء وباء “كورونا” حتى الآن، وبات التردّد في القرارت والتراجع عنها صفة ملازمة لها، وإذا استمرّت ستحملها على بساط الريح إلى السقوط المريع في نهاية السنة…
في الخلاصة، دارت اللعبة المالية في المؤسسات كلّها، وسط شعور بعدم وجود نقطة ارتكاز ووصل بين الأطراف والأجندات والأرقام المتباعدة والمتصارعة. ووصل الجميع إلى جدران مسدودة، حتى بدا أن لا حلّ إلا عن طريق سلامة، وأنّ الملفات يجب أن تكون كلّها على طاولته. وقد تجاوز دوره مرحلة التشاور معه بعد الانهيار النقدي الذي يشهده السوق. هو الذي تعرّض لكلّ هذه الحملات، ربما يكون من حقّه أن يرى الأطراف كلّها في ضياع تام، كي يأتي الجميع إلى التسليم بدوره ورأيه.
الارتباك الكبير يبدو أنّه سيعيد القرار إلى حاكميته.