لم يسلم القضاء اللبناني من “التعنيف اللفظي” الذي مارسه النائب حسن فضل الله قبل أيام، متهماً القضاء بالتقصير تجاه “شبكة التلاعب بسعر صرف الدولار في لبنان، وإرساله إلى خارج البلاد”، وادّعاءه أنّ “الأموال اللبنانية كانت تخرج من المصرف المركزي إلى مصارف عدّة لشراء عشرات ملايين الدولارات لمصلحة مصرف سوسيتيه جنرال بالتعاون مع بعض الصرّافين”.
إقرأ أيضاً: سلامة تراجع في بعبدا… والنزال المقبل على هويّة القطاع المصرفي
يرفض النائب حسن فضل الله التعليق على كلامه، ويؤكد أن لا شيء لديه جديد ليضيفه، ويرمي الكرة في ملعب الجهات القضائية. لكنّ مصادر مطلعة على موقف الثنائي الشيعي أكّدت أنّ “حزب الله ممتعض من المدعي العام المالي علي إبراهيم، إذ يعتبر أنه سلّمه ملفات فساد لم يتفاعل معها كما يجب، ومنها ملف وزارة الاتصالات”. وكبر الامتعاض “لأنّه لم يستدعِ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في قضية المضاربات التي شهدتها السوق السوداء في ما يخصّ سعر صرف الليرة والدولار”. ويعتبر حزب الله أنّ “عضوية ابراهيم في الهيئة المصرفية العليا لدى مصرف لبنان، تضطره للوقوف في صفوف الدفاع الأمامية عن سلامة”.
وعن جدّية كلام فضل الله، واحتمال أن يكون مجرّد كلام في السياسة، أكد المصدر لـ”أساس” أنّ لدى حزب الله معلومات جدّية حول هذا الملف. ووصف الكلام الموجّه ضد القاضي ابراهيم بأنّه “قبة الباط” حيث “سقطت المحرّمات عندما تحدّث فضل الله عن الموضوع في رسالة سلبية واضحة تجاه إبراهيم كون فضل الله موكّل بملفّ الفساد مباشرة من قبل أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله”.
يحاول حزب الله اليوم محاربة سلامة في التكتيك، برأي المصدر، ويعتبر أنه وجّه له صفعة في تطيير محمد بعاصيري وتعيين بديل عنه، كما يعتبر أنّ إجبار سلامة على ضخّ الدولار في السوق بعد إخفائه منذ آب الماضي، هو إنجاز
ولا ينفي المصدر رفض حزب الله إقالة سلامة في هذه المرحلة، لأنّه ليس بوارد فتح جبهة داخلية مارونية عليه في ظلّ الجبهة السنية، ولا يريد أن يتحمّل وزر عقوبات أميركية إضافية على لبنان يدفع ثمنها اللبنانيون لا حزب الله “لأنّ رئيس الجمهورية ميشال عون رفض إقالة سلامة في 2 نيسان بسبب ضغوطات من المرجعيات الروحية المارونية، وتحديداً من البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الذي أسرّ لعون قائلاً عن سلامة: هذا ابني”.
ويحاول حزب الله اليوم محاربة سلامة في التكتيك، برأي المصدر، ويعتبر أنه وجّه له صفعة في تطيير محمد بعاصيري وتعيين بديل عنه، كما يعتبر أنّ إجبار سلامة على ضخّ الدولار في السوق بعد إخفائه منذ آب الماضي، هو إنجاز. ومن الأسباب أيضاً التي تجعل من حزب الله حريصاً على سلامة في هذه المرحلة رفضه “البديل المطلوب من رئيس الحكومة حسان دياب” وهو الوزير السابق جهاد أزعور، الذي يرى حزب الله أنّه من إنتاجات فكر السنيورة المالية، ومقرّب جداً من الأميركيين، وهو أيضاً مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، ويشرف حالياً على عمل الصندوق في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا الوسطى والقوقاز.
نائب حزب الله يتدخل في القضاء لمصلحة صرّاف
جهات مقرّبة من المدعي العام المالي ترى في كلام فضل الله “مبالغة”، وتعلّق على كلامه الأخير بالقول: “النائب فضل الله عندما كلّفه أمين عام حزب الله بملف الفساد ظنّ نفسه في سويسرا. ولذلك يتعاطى ببعض هذه الأمور بكثير من المبالغة، وقد لا يملك معلومات دقيقة حول دور النيابة العامة المالية، وكلامه بحاجة للتواضع ولمواقعته مع المؤثرات الخارجية”. وتوضّح الجهاة القريبة من علي ابراهيم أنّ المدعي العام المالي “قام بعمله، وهو عندما يكون أمام شبهةٍ ما يحوّلها إلى قاضي التحقيق وينتهي دوره هنا، إلا إذا كان فضل الله يقصد بكلامه قاضي التحقيق”.
وتضع المصادر إشارات استفهام حول موقف حزب الله تجاه القاضي إبراهيم وما إن كان موقفاً موحّداً، بعد التوضيح الصادر عن جواد نصر الله الذي أكد في تغريدة له أن المقصود في التصويب على القضاء ليس القاضي ابراهيم، وذلك بعد تغريدة أولى نال فيها من هيبة القضاء اللبناني.
وجاء في التغريدة الأولى التي حذفها جواد نصر الله بعد ساعات من نشرها: “على أمل يتحرك القضاء وبلا قهوة هالمرّة وينضبّ الملف متل وقت الصرّافين”. وهي التغريدة التي أشعلت جبهة افتراضية بين مناصري “حزب الله” وحركة “أمل” في سابقة يندر حدوثها. وفي التوضيح قال جواد نصر الله في تغريدة أولى: “الظاهر كلّ تغريدة بحاجة لفهرست المعاني تجنباً لعبثية التسطيح ومع ذلك لن تصفو سريرة الطفيليين وإصرارهم إلباسها رداءة تفكيرهم الضيق و تفاهة التفسير والبناء على الوهم والخيالات الفارغة، وأما الهمز واللمز وقول السوء صفة أهله ويضع قائله”. وأضاف في تغريدة ثانية: “تغريدة عملت التباس، ماحدا يحملها كتير ويحملني سطحية افكاره، كأي شخص انتقد القضاء ولم أقصد السيد علي ابراهيم، إنّما من قصده وذكر اسمه هو من أساء للقاضي. عم نكتب عربي وهيك كيف لو بالمسماري!!”.
تدخل أحد النوّاب الصقور في حزب الله للإفراج عن أحد الصيارفة الكبار كان قد أحاله إبراهيم إلى قاضي التحقيق قبل أيام
وعن استدعاء صرّافين والإفراج عن بعضهم في أوقات لاحقة، توضح المصادر نفسها أنّ هناك تحدّياً كبيراً لمحاسبة هؤلاء في ظل تحكّم العرض والطلب بالسوق ووجود أكثر من 5 أسعار صرف للدولار، وعدم إرساء ضوابط وقواعد واضحة. وتنفي المصادر نظرية تسجيل حزب الله للنقاط على النيابة العامة المالية بموضوع رياض سلامة، على اعتبار أنّ نائب أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم كانت لديه مواقف علنية عديدة أكد فيها أن حزب الله لا يحمّل رياض سلامة كامل المسؤولية، وأنّه ليس مع إقالته في الوقت الحالي. وتكشف أنّه في المرحلة الأخيرة تصدّى حزب الله للوزير جبران باسيل ورئيس الحكومة ورفض المسّ بالمطلق بحاكم مصرف لبنان لحماية ما تبقى من مناعة نقدية وخوفاً من وصول الدولار إلى 10 آلاف ليرة.
وتؤكد الجهات المقرّبة من المدعي العام المالي أن القاضي علي ابراهيم وصل إلى مرحلة من الإحباط واليأس لأنّ الناس لا تلاقيه إلى منتصف الطريق، ولا يرى بيئة حاضنة لجهود النيابة العامة المالية، ويعيش حالة استغراب من الشارع الذي تحرّكه أيّ موجة تعصّب أكثر من أكبر قضية تمسّ بلقمة عيشه، في وقت يحارب وحده على جبهة الضغوط السياسية.
تصويب حزب الله على المصرف انطلاقاً من موقفه من رئيس مجلس إدارة مجموعة “بنك سوسيته جنرال”ـ أنطون الصحناوي، الذي يعتبره حزب الله “زلمة الأميركان في لبنان
وتذكر من بين هذه الضغوط، تدخل أحد النوّاب الصقور في حزب الله للإفراج عن أحد الصيارفة الكبار كان قد أحاله إبراهيم إلى قاضي التحقيق قبل أيام. ويوم توقيفه، اتصل النائب بالمدعي العام المالي متدخلاً، وقال له: “هذا الموقوف يحتاج كلّ ليلة إلى جهاز تنفّس قبل النوم”. فردّ عليه إبراهيم رافضاً الإفراج عن الصرّاف وممازحاً: “أنا اللي صار بدي جهاز تنفّس”. ومن الضغوطات أيضاً تستذكر الجهات ساعة إصدار قرار تجميد أصول المصارف، إذ كان أوّل المتصلين رقم هاتف 05 اتصل بالقاضي إبراهيم وقال له: “فخامة رئيس الجمهورية يريد الحديث معك”، وحصل ما حصل.
صراع أميركي-إيراني على جبهة المصارف
بالعودة إلى كلام فضل الله، يرى مصدر مصرفي أنّ التصويب على “سوسيته جنرال” ليس بريئاً، وهو في صلب الصراع الأميركي الإيراني. ويبرّر المصدر نفسه، تصويب حزب الله على المصرف انطلاقاً من موقفه من رئيس مجلس إدارة مجموعة “بنك سوسيته جنرال”ـ أنطون الصحناوي، الذي يعتبره حزب الله “زلمة الأميركان في لبنان”، ويعتبر أنّ مصرفه “أكثر بنك أميركي في لبنان”، وأنّ “للصحناوي دوراً سياسياً مستقبلاً في لبنان”، ويحاول حزب الله قطع الطريق عليه.
لكن هل فعلاً “سوسيته جنرال” شريك بعمليات المضاربة في السوق اللبناني؟
لا معطيات أكيدة حول ذلك، يؤكد المصدر المصرفي لـ”أساس”، ويضيف: “لكن ربما تتقاطع مصالح المصرف مع أميركا في مكان ما… والإجابة على هذا الموضوع حصراً في يد القضاء اللبناني”، لافتاً إلى أنّ “الصراع الأميركي الإيراني على جبهة المصارف اللبنانية بدأ بالتصاعد التدريجي، وصولاً للانفجار المتوقّع”.
ورقة نَعْي للاقتصاد اللبناني
رئيس مركز الأبحاث في بنك بيبلوس نسيب غبريل يرفض التعليق على كلام فضل الله، ويؤكد أنّ ّفقدان الثقة هو الذي أدّى إلى وجود 5 أسعار للدولار. وأزمة الثقة العميقة التي بدأت في أواخر 2017 مع قرارات السلطة التنفيذية العشوائية وتفاقمت في أواخر الـ2019، هي التي أدت إلى أزمة السيولة التي نعيشها اليوم. وذلك بالإضافة إلى بيع حاملي سندات اليوروبوندز من الأجانب لسنداتهم وخروجهم من السوق اللبناني، بعد أن لمسوا عدم تجاوب السلطات اللبنانية مع إصلاحات مؤتمر سيدر، وسحب الاغتراب اللبناني لأمواله من المصارف اللبنانية، واتخاذ قرار التعثّر عن دفع سندات اليوروبوندز قبل الدخول بالمفاوضات، ومن دون استشارة الجهة المعنية حاملة أعلى نسبة من السندات وهي الجهاز المصرفي اللبناني، وحاملي السندات. وبعد كلّ هذا التعثر، جاء مشروع الحكومة البعيد كلّ البعد عن استعادة الثقة ليقضي على ما تبقى من ثقة، وليكون بمثابة ورقة نعي للاقتصاد “فنحن اليوم، بحسب مشروع الحكومة، لنعيد الاقتصاد اللبناني إلى الحجم الذي كان عليه في الـ2018، علينا أن ننتظر حلول عام 2043”.
[VIDEO]