على عكس الرئيس اللبناني ميشال عون، يشغل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حيّزاً مهماً في قلوب كثيرين من اللبنانيين، السُنة تحديداً. تسأل بعضهم عن سبب عدم حُبّهم لرئيس بلادهم، فيستحضرون لك، عن حقّ وسريعاً، واقعاً مريراً يبدأ بحرب التحرير وضحاياها ومعاناتها ومآسيها، ثم يمرّ بورقة “تفاهم مار مخايل” التي وقّعها عون مع “حزب الله” على حساب التوافق والتفاهم اللبناني… ولا ينتهي بأسلوب وصوله إلى بعبدا وبذيول “التسوية الرئاسية” المشؤومة وما رافقها من تنازلات سنيّة، ثم إخفاقات وفشل في إدارة التسوية، وركائزها كانت ولا تزال “تسلّط الصهر” الذي يمارسه الوزير السابق جبران باسيل على الوزارات والمؤسسات الدستورية والأحزاب والأفراد بحجة إعادة “حقوق المسيحيين”… وما أدت كلها إلاّ إلى انهيار البلاد اليوم، وهي بكلّ صدق وأمانة أسباب لا تدعو إلى محبّة مقترفها وداعمه على الإطلاق.
إقرأ أيضاً: لسنا معنيين بحرب الكرامات بين أردوغان وبوتين
أما حبّ هؤلاء لأردوغان، فالإجابة عن السؤال حوله تأتيك بعيدة عن واقعنا اللبناني. إجابات مُرَبكة، ضَحلة، لا تخلو من العاطفة. تلك العاطفة العمياء التي تخفي في عمقها بعداً طائفياً صرفاً، يدخل في صلب القهر السنّيّ وتعطّش هذه الطائفة لزعامات ملهمة مُفوّهة وفاعلة، فقدوها منذ عقود. بدءاً من جمال عبد الناصر والملك فيصل وأبو عمار ووصولاً إلى رفيق الحريري، لكنهم وجدوها في شعبوية أردوغان، السنّي الطارىء الذي يصرخ باسم الأمة… ولا يعمل سوى لنفسه.
أحدهم يقول لك: “أردوغان رئيس يحبّ بلاده ويعمل لصالحها وتمكّن من إعادة بناء الاقتصاد التركي”. تسألهم عمّا قدّمت تركيا – أردوغان في لبنان أو في الدول العربية؟ فيلتفتون ذات اليمين وذات الشمال، أو يلوذون بالصمت لهينهات، ثم يُسمعونك موشّحات، خصوصاً من غير المتابعين للشأن السياسي، عن الترتيب والنظافة والسياحة والضيافة التركية (وهي صحيحة بالمناسبة)… فتكتشف سريعاً أنّ كلّ ما يعرفه أغلب هؤلاء عن تركيا، لا يتخطّى مشاهدات من خلف الشاشات لمسلسلات وشخصيات مؤثرة على مواقع التواصل الاجتماعي.
المطلعون منهم على الشأن الداخلي، يتنكّرون لإنجازات “حزب العدالة والتنمية” مجتمعاً (وليس أردوغان منفرداً) في بناء تركيا التي يتغنّون بها اليوم
من تسنّت لهم زيارة تركيا، وهم كانوا كثيرين قبل الأزمة طبعاً، يحدّثونك عن انخفاض كلفة السياحة في شواطىء أنطاليا ومرمريس وبودروم الزرقاء، وعن أناقة المطاعم والمقاهي والأطعمة والمشروبات اللذيذة والنظيفة بلحومها ومازاتها وحلوياتها. يخبرونك عن معالم تركيا السياحية مثل ساحة تقسيم ومسجد محمد الفاتح ومتحف آيا صوفيا الذي حوّله أردوغان مؤخراً إلى مسجد، فحقّق نصراً مبيناً (ونِعمَ الشعبوية وانتصاراتها).
عظيم.
لكن من المؤكد أنّ ما يشاهدونه هناك ويختبرونه، يتمنّون أن ينعموا به في وطنهم ومناطقهم، وهذا حقّ مشروع جداً، لكن هل أردوغان سيجلب إلينا كلّ هذا ليتعلّقوا به عاطفياً؟ هل حبّهم له سيدفعه إلى نقل تجاربه الاقتصادية الناجحة ومصانعه إلينا؟
بالطبع لا.
هم أنفسهم الذين يسخرون، عن حقّ، من طرح “التوجّه شرقاً” الذي تبنّاه الأمين العام لـ”حزب الله”، يبحثون عن مبرّرات لتولية أردوغان وجهه الشطر الشرقي من تركيا ولتخلّيه عن حلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لصالح علاقات سياسية وتجارية فاعلة مع روسيا وإيران التي يتهمونها بكلّ الويلات في المنطقة.
يتهرّبون من الإجابة عن سبب إقامته علاقات دبلوماسية وتجارية مع العدو الإسرائيلي ويضعونها في إطار “التنسيق” لنصرة القضية الفلسطينية. يغضّون الطرف عن تحالفه مع روسيا التي شيطنوها يوم تدخّلت ضد الثورة السورية التي يناصرونها، فعوّمت نظام الأسد و”حزب الله” وإيران (اسألوا أهل حلب ماذا فعل بهم أردوغان).
إيران التي يقيم أردوغان معها علاقات تجارية ظاهرة وخفية ويساعدها في الالتفاف على العقوبات المفروضة عليها من الولايات المتحدة بسبب ملفيها النووي والصاروخي، وتدخلاتها في دول المنطقة (راجع ملف Halkbank الحكومي التركي ورجل الأعمال من أصول إيرانية المحتجز في الولايات المتحدة بهذه التُهم، واسمه رضا ضراب)، ناهيك عن التنسيق مع تنظيم “داعش” وشراء النفط السوري منه وتسهيل وصول المقاتلين إلى مناطق نفوذه عبر الأراضي التركية.
المطلعون منهم على الشأن الداخلي، يتنكّرون لإنجازات “حزب العدالة والتنمية” مجتمعاً (وليس أردوغان منفرداً) في بناء تركيا التي يتغنّون بها اليوم، فيتناسون فضل المجموعة الفاعلة من الرعيل الأول الذي انتشل تركيا من كبوتها، وأقصاها “أبو بلال” اليوم أو هي انفضّت من حوله (ابن أردوغان البكر هو أحمد، لكن بلال أكثر ظهوراً وتدخلاً في السياسة والاقتصاد)، أمثال علي باباجان وأحمد داود أوغلو والرئيس السابق عبدالله غول، الذين يطلقون أحزاباً معارضة له، بعد أن استأثر بالسلطة وحوّل تركيا إلى نظام رئاسي من خلال تعديل دستوري بموجب استفتاء شابته الكثير من الشكوك… وكلّ ذلك لم يؤدّ إلاّ لإضعاف أنجح تجربة رائدة للإسلام السياسي الـ”مودرن” في المنطقة، كانت تتغنّى بها أهم مراكز الأبحاث الأميركية، وانكفأت.
من المؤكد أننا لا نملك تَرَفَ المقارنة بين لبنان وتركيا، لا على المستوى الاقتصادي ولا لناحية حجم الخدمات والتقدمات التي تمنحها الدولة التركية لمواطنيها
محبّو أردوغان هم أنفسهم يعتبرون أنّ الانقلاب، الغبي والفاشل ضدّه عام 2016، كان سبباً كافياً ومحقّاً لينكّل بالمدنيين وليس العسكريين فحسب، وليطرد قضاة وأساتذة جامعات ومعلمات ومعلمين، وحجّة موجبة لاجتثاث جماعة فتح الله غولن، من الإدارة الرسمية ومن قطاعات مختلفة ومن دور العبادة والتلفزيونات والصحف والمواقع الاخبارية والنوادي الرياضية، وملاحقة الصحافيين والمغرّدين والمدوّنين وخنق الحريات وسجن نوابٍ حاليين في البرلمان بتُهم واهية وسخيفة.
هم لا يقيمون وزناً لـ”نظرية الصهر” في تركيا كما يفعلون في لبنان. لا يخبّرونك عن صهر أردوغان الأول بيرات البيرق، الذي يستأثر بحقيبة وزارة المالية في الحكومة التركية، ويوقف كلّ من ينتقد سياساته الاقتصادية، ولا عن صهره الثاني سلجوق بيرقدار الذي كان مرشحاً لتولي حقيبة الصناعة والتكنولوجيا خلال أزمة جائحة كورونا.
من المؤكد أننا لا نملك تَرَفَ المقارنة بين لبنان وتركيا، لا على المستوى الاقتصادي ولا لناحية حجم الخدمات والتقديمات التي تمنحها الدولة التركية لمواطنيها، هذا صحيح. كما أنّ المقارنة بين الرجلين قد تبدو ظالمة إلى حدّ بعيد جداً، لكنّ منصب الرئاسة وبعض القواسم المشتركة فرضت نفسها على شكل المقال. فأردوغان استلم بلداً منهاراً وعمل على ازدهاره اقتصادياً، وأخذ بالتحوّل رويداً رويداً إلى ديكتاتور يطمح إلى بسط نفوذه في الداخل التركي ثم في المنطقة. بدأ بأسلوب ثقافي ناعم ثمّ تحوّل إلى الطريقة الإيرانية، متخلياً عن نظرية “صفر مشاكل” التي هندسها لأنقرة داود أوغلو، فيما وصول عون إلى الرئاسة تسبب بانهيار اقتصاد لبنان وعملته، لكنّه لم يستطع ولن يستطيع أن يتحوّل إلى ديكتاتور لا هو لا صهره. “الحمد لله”.
المقال لا يدعو إلى حبّ عون ولا يشحذ الهمم من أجل كُرهه أيضاً، أو حتى من أجل كره أردوغان، وإنّما يدعو إلى الحرص على “وحدة المعايير” لا على ازدواجيتها. يدعو إلى التفكير ملياً عمّا يمكن أين يطمح إليه شخص مثل أردوغان في لبنان فيما لو سنحت له الفرصة. هل سينقل تجارب حزبه الناجحة إلى شمال لبنان مثلاً؟ أم أنه سيستغل شعبيته وحبّ الناس له من أجل توظيفها بمشاريعه التوسعية؟ لعلّ الإجابة السريعة موجودة لدى السوريين الذين درّبهم لسنوات من أجل قتال نظام الأسد في حلب وغيرها، وها هو اليوم يرسلهم على شكل مرتزقة إلى ليبيا وغيرها ربما لاحقاً.
هي فكرة “سفر برلك” نفسها: السلطان التركي يستغلّ شبّان لبنان ليقاتل بهم؟ ما الفارق حينها بينهم وبين الخمينيين؟
حُبّ بعض السُنّة لأردوغان مشروعٌ في حال لم يتخطّ منطق حبّ الكثيرين من العروبيين السنّة والمسلمين عموماً لعبد الناصر أو حبّ شيوعيين لتشي غيفارا أو حبّ مسيحيين للبابا فرنسيس مثلاً. لكن تخطّي الحدود إلى المجاهرة في مناصرته أو الانتماء إلى بلاده والسعي لخلق علاقة وجودية معه، غير مستبعد أن يتطوّر هذا التنسيق مع الوقت، ليمسي شبيهاً بحبّ “حزب الله” لعلي خامنئي مع “أكسسواراته” وزوائده كاملة، في المنطق “الخميني” الذي نعاني منه اليوم.
ألا يجب أن نعرف أنّ رفعَ العلم التركي في بيروت أو في الشمال في أيّ مناسبة، يشبه كثيراً، بل يتطابق مع رفع علم إيران في ضاحية بيروت الجنوبية وفي الجنوب والبقاع؟ ويشبه أيضاً استقبالك بصُوَر الخميني أو خامنئي عند مدخل مطار رفيق الحريري الدولي.
أما أن يكون معيار “الإنجازات الداخلية” أو إخلاص الزعيم لبلاده، مبرّراً للوقوع في حبه عن بُعد، فهذا ليس مقياساً للحبّ على الإطلاق، وإلاّ لكان حُبّ بنيامين نتنياهو بسبب إنجازاته للكيان الصهيوني، ممكناً لا سمح الله.
يا جماعة: حريٌّ بنا أن نبحث أردوغاننا اللبناني هنا في لبنان… لا في تركيا!