تعيينِ محافظِ كسروان جبيل بولين ديب قبل صدور المراسيم التطبيقية للقانون رقم 50/2017 بعد أكثر من ثلاث سنوات على فصل كسروان جبيل عن محافظة جبل لبنان، أعاد قضية إنشاء المحافظات في لبنان إلى الواجهة. فمع أحقية المناطق وحاجتها لهذا الفصل، يبدو إنشاء المحافظات “بالمفرّق” مجرّد قرارات عشوائية ترضي أهالي المناطق لغايات انتخابية “صوَرياً”، ولا تقف عند حاجاتهم الملحّة للإنماء بالشكل الفعلي، حتى لا نقول طائفية.
إقرأ أيضاً: فهمي وضع يده على القرار… صيداني: عزل مدير “داتا” بلدية بيروت مريب
ولعلّ النماذج السابقة لإنشاء المحافظات، لا سيما آخر نموذجين في بعلبك الهرمل، وفي عكار، لم تكن مشجّعة كفاية حتى خلال مرحلة “التخمة الاقتصادية” التي كان يعيشها لبنان خلال السنوات الماضية. فما بالك إن كان الإنشاء متزامناً مع أزمة مالية تبشّر بإفلاس الدولة.
لقد أصرّ وزير الداخلية والبلديات محمد فهمي في جلسة الحكومة، على عدم تعيين المحافِظة الجديدة، لإدراكه الوضع الراهن الذي لا يسمح بإنشاء ملاك إداري للمحافظة الجديدة، ولا يسمح بالتوظيف ولا حتى رصد الأموال لمقرّ المحافظة. وكاد أن يغادر الجلسة يومها بعد مشادّة كلامية مع عدد من الوزراء رفضاً لتعيينات لزوم ما لا يلزم، ما عدا التنفيعات. ويا ليت الإنماء يوزّع على المناطق كما توزّع المناصب على الأحزاب.
جاء موقف فهمي كأنه إعادة لموقف وزير الداخلية الأسبق نهاد المشنوق الذي أدلى بمطالعة في مجلس النواب، حين طُرح قانون انشاء المحافظة التي تقدّم به النائب نعمة الله أبي نصر في حينه، معارضاً مشروع قانون إنشاء المحافظة التي تكرّس “العزل الطائفي” على حدّ تعبيره آنذاك وصوّت ضد مشروع القانون، بينما صوّتت كتلة المستقبل التي كان يمثّلها في الحكومة لصالح المشروع ، تحت شعار الرئيس السنيورة بأنّه “خجل من المسيحيين”.
بدلاً من أن نقوم بإعادة النظر بالتقسيم الإداري ككلّ بالنسبة لكلّ المحافظات، يتمّ عملياً إنشاء المحافظات بالمفرّق
كان في لبنان 5 محافظات تاريخية نصّ عليها التقسيم الإداري الصادر عام 1959، وهي محافظة بيروت، وجبل لبنان، ولبنان الشمالي، ولبنان الجنوبي، والبقاع. وفي العام 1975، أُنشئت محافظة النبطية ضمن محافظة لبنان الجنوبي. وفي العام 2003، أنشئت محافظتا عكار، وبعلبك الهرمل، الأولى مفصولة عن محافظة لبنان الشمالي والثانية عن البقاع. وفي العام 2017، تمّ فصل كسروان فتوح جبيل عن جبل لبنان. ويشدّد وزير الداخلية والبلديات السابق زياد بارود في حديث لـ”أساس” على أحقية هذه المناطق في أن تكون لها محافظات. ويشير إلى أن الطائف عام 1989 نصّ على ضرورة إعادة النظر بالتقسيم الإداري. لكن “بدلاً من أن نقوم بإعادة النظر بالتقسيم الإداري ككلّ بالنسبة لكلّ المحافظات، يتمّ عملياً إنشاء المحافظات بالمفرّق في وقت نحتاج لمقاربة الموضوع بالجملة، مقاربة موضوعية علمية وعملية شاملة لكافة الأراضي اللبنانية”. مع الملاحظة أنّ إعادة النظر بالتقسيم الإداري في الطائف جاء ملازماً لشكل الدوائر الانتخابية، وهو ما لم ينفّذ.
لا إشكالية قانونية في تعيين المحافِظة الجديدة، يقول بارود. “لكنّ الإشكالية في عدم وجود المحافَظة بمعناها الوظيفي
ويضيف بارود: “منذ العام 1959 أمور كثيرة تغيّرت. وإذا أردنا ان نختار عدد النواب كمعيار، ففي عكار 7 نواب، وفي كلّ الشمال 21 نائباً. في كسروان فتوح جبيل 8 نواب، وفي المتن الشمالي 8 نواب أيضاً وليس هناك محافظة في الأخيرة”. ويؤكد أنه يمكن اللجوء لهذا المعيار الموحّد في إنشاء المحافظات: “علماً أن ما أنشئ أصبح قائماً ولا رجوع عنه. ولكن يجب أن ننظر إلى الأراضي اللبنانية ككلّ لإنشاء المحافظات حيث يجب تأمين العدالة والمساواة بين جميع المناطق”.
لا إشكالية قانونية في تعيين المحافِظة الجديدة، يقول بارود. “لكنّ الإشكالية في عدم وجود المحافَظة بمعناها الوظيفي، إذ يجب أن يُستتبع التعيين بمراسيم تطبيقية، الأمر الذي استغرق سنوات في النماذج السابقة. فعكار وبعلبك الهرمل مثلاً اللتان أنشئتا بموجب القانون رقم 522 في العام 2003، صدرت مراسيم القانون التطبيقية في العام 2012. ولكي تكون هذه المحافظات فاعلة ولتمارس المحافِظة مهامها تحتاج لمرسوم تحديد الملاك الذي يحدّد الجهاز الوظيفي، من أمانة السر، ورؤساء الدوائر وباقي الموظفين، وتحتاج لمقرّ أيضاً”.
وعن نموذج بعلبك الهرمل تحديداً، يؤكد محافظ بعلبك الهرمل بشير خضر على أنّ “صلاحياتي واضحة وصريحة، وتتمّ ممارستها منذ أول يوم”، لكن التحدّي كان في “فصل عدد كبير من الدوائر عن محافظة البقاع. ورغم المبادرات والجهود الحثيثة، لا زال هناك بعض الأمور التي تنقص المحافظة نتيجة عدم التوظيف، وضعف الإمكانيات المادية في الدولة التي تحول دون استكمال بعض الدوائر، بالإضافة إلى أسباب لوجستية تتعلّق بعديد قوى الأمن”.
“التشوّهات الإدارية” تلحق بمحافظة بعلبك الهرمل، وتمنعها من أن تكون محافظة قائمة بحدّ ذاتها
من النواقص، يذكر خضر في حديثه لـ”أساس” عدم التمكّن “من إنشاء قيادة منطقة أمن داخلي بسبب نقص في عديد قوى الأمن الداخلي، رغم موافقة مجلس الوزراء قديماً على إنشائها، بالإضافة إلى شغور بعض الوظائف في عديد ملاك المحافظة. فهناك أكثر من 7 وظائف شاغرة، غير الوظائف الشاغرة في الدوائر، ومن بينها رؤساء أقسام”. ويتابع: “يمرّ الوقت من دون إمكانية للتوظيف”. حتّى دائرة النفوس موجودة لكن بحاجة لتعيين من يقوم بتسيير هذا الموضوع: “لكنّ عدداً كبيراً من الدوائر تمّ فصلها قبل سنوات، والموضوع يحتاج لمبادرة ومجهود شخصي ومتابعة كبيرة مع الوزارات المختصة”.
بدورها تغوص مصادر محلية أكثر في الحديث عن “التشوّهات الإدارية” التي تلحق بمحافظة بعلبك الهرمل، وتمنعها من أن تكون محافظة قائمة بحدّ ذاتها، وتؤكد أنّ المحافظة فعلياً موجودة على الورق لا على أرض الواقع المعيشي والإنمائي الذي يرزح تحته أهالي المنطقة. فهي تفتقر لكثير من المؤسسات الحكومية، وتقول المصادر: “لدينا مصلحة زراعة، ودائرة عقارية ومنطقة تربوية، نعم. لكن هل هي مراكز فاعلة حقاً؟، بالإضافة إلى أن الكثير من الوزارات الأخرى ليس لديها مراكز فعلية في بعلبك، مثل الثقافة، علماً أن بعلبك مدينة تراثية”. وتضيف المصادر: “حتّى المالية ليس لديها دائرة فعلية، بل موجودة كمحتسبية فقط، ولا دائرة لوزارة الصحة بل مكتب لإدارة شؤون الصحة لا أكثر ولا أقل”. ولذلك، أهالي المنطقة مضطرون في كثير من الأحيان للجوء إلى مركز المحافظة القديم في زحلة لتسيير كافة أمورهم، لا سيما في الأمور القضائية، إذ إنّ القضاة المعيّنين لبعلبك الهرمل غير كافين لمنطقة جغرافية هي الأكبر في لبنان، وتعاني ما تعانيه من الخلل الأمني والتجاوزات بسبب غياب الإنماء وإهمال الدولة وتحكّم الأحزاب”.
حتّى أنّه لا يوجد مركز محافظة فعلي لبعلبك الهرمل بعد 17 سنة من إنشائها، بل هو مؤقت وعبارة عن مبنى كان مدرسة رسمية. علماً أنّه منذ إنشاء المحافظة، تمّ اختيار ثكنة غورو كمركز للمحافظة ورُصدت له الأموال. لكن لأسباب سياسية لم ينفّذ القرار رغم أنه المكان الأنسب للمحافظة، ويستطيع أن يجمع كافة الدوائر وأجهزة الوزارات في مكان واحد بدلاً من تشتتها في أماكن متفرقة. وذلك كله، لتبقى بعلبك الهرمل شمّاعة للمطالبة بالإنماء، للمتحكّمين بها، برأي المصادر.
إذاَ، فقط في لبنان، نجد محافظ من دون محافظة، ومحافظة من دون عديد، ومكاتب من دون دور فعلي… وتكرّ سبحة التجاوزات في بلدٍ أثبت عجائبيته، يوزّع المناصب وينسى الإنماء ولا من يُحاسِب!