ذات يوم من عام 2002، أيّام هيمنة النظام الأمني السوري في لبنان، استدعى المدير العام للأمن العام آنذاك جميل السيّد إلى مكتبه للتحقيق، الشيخ بلال بارودي، شيخ قرّاء طرابلس، وهناك سأله الضابط في الاستجواب: لماذا لا يشكّل جمعية خاصة يعمل من خلالها فيكون وضعه أقوى من أن يكون محصوراً في دار الفتوى بوضعها الضعيف والمحدود، عارضاً عليه تسهيل تشكيل الجمعية، فسأله الشيخ بارودي: “إذا قمتُ بهذه الخطوة، فهل تظنّ أنّ دار الفتوى تزدادُ ضعفاً أو قوّة؟ أنا أفضّل أن أساند ضعفها على أن أزيدها ضعفاً”.
إقرأ أيضاً: الشيخ بارودي(1/2): إما يسلّم الجيش سلاحه لحزب الله.. أو العكس
بهذه الخلفية راكم الشيخ بلال بارودي مسيرته العلمية والعملية في جامعة طرابلس وفي الأزهر الشريف، ففضّل الصمود في دار الفتوى على الانخراط في أيّ حركة أو تنظيم، مع احتفاظه بعلاقاتٍ متقدّمة مع مجمل الجسم الإسلامي، وتقديمه نموذجاً عملياً للعالم المسؤول والحاضر مع الناس في الأزمات والتحوّلات العصيبة.
يقول الشيخ بارودي لـ”أساس” إنّ “انكفاء زعماء السنّة حفاظاً على السلم الأهليّ لم ينفع ولم يكن موضع تقدير عند الآخرين، بل زادهم وقاحة وتسلُّطاً، واعتبروا أنّ هذا الأداء مؤشّر ضعف، حتى وصلوا إلى فرض أوّل طعنة في اتفاق الطائف من خلال اتفاق الدوحة، بفرض الثلث المعطِّل داخل الحكومة، الذي عطّل عملياً موقع رئيس الوزراء”.
استطاع الرئيس الشهيد رفيق الحريري أن يُنجز اتفاق الطائف، لأنه حافظ على الجميع بقوّتهم جميعاً
ويتابع الشيخ بارودي: “نحن مقتنعون قناعة راسخة، ثابتة وغير ظرفية، أننا نتكامل لبناء لبنان مع شركائنا ولن نلغي أحداً، كما أنّه لن نسمح أن يلغينا أحد لا يقوّة المال، ولا بقوّة السلاح، ولا بقوّة التاريخ، ولا بقوّة الجغرافيا. رضينا بلبنان عن قناعة.. لسنا مكرَهين، ولا مجبرين، ويجب أن نحافظ على تنوّعه ليكون نموذجاً حقيقياً لانفتاح الإسلام والمسلمين وللتآخي الوطني الحقيقي بين اللبنانيين، ولنعطي أجمل صورة عن كيف يمكن أن يعيش مختلفون معاً، وأن يتعاون سوية من لهم في التاريخ صراعاتٌ، إذا كان لدينا هدف الحفاظ على الكينونة الكاملة لبلدنا”.
ويرى الشيخ بارودي أنه بهذه المنطلقات “استطاع الرئيس الشهيد رفيق الحريري أن يُنجز اتفاق الطائف، لأنه حافظ على الجميع بقوّتهم جميعاً. فالكلّ يبقى قوياً، والكلّ يبقى موجوداً وممنوع إلغاء أيّ طرفٍ للآخر. وهذا ما جعل المسيحيين يتوافقون عليه، قبل المسلمين، الذين يشعرون حتى الآن أنّهم ضحّوا بقبولهم باتفاق الطائف”.
لكنه يتوقّف عند مواجهة اللبنانيين بعد العام 1982 إشكالية تصفية كلّ حركات المقاومة للعدو الإسرائيلي باتفاقٍ دولي كان المتعهّد في تنفيذه النظام السوري، ليبقى السلاح المقاوِم محصوراً بيد فئة من الناس شاركت في القضاء على المقاومة الفلسطينية والوطنية وفي الحرب الأهلية، وهي الآن تتصدّر الساحة.
لا يمكن أن ينسى أحدٌ كلام حسن نصرالله عندما قال إنّ “السابع من أيار يوم مجيد”
يضيف الشيخ بارودي: “بعد خروج الإسرائيليين من الجنوب، ازداد الضغط على صانعي الطائف حتى وصلنا إلى مرحلة أنهم أرادوا حبس رفيق الحريري. وأهانوا كلّ من أوقف الحرب الأهلية، من السنّة خصوصاً، وأذلّوهم. والكلّ يذكر قضية الزيت، وقبل ذلك نفي مستشار الشهيد رفيق الحريري، نهاد المشنوق… وانتهت تلك الحملة بالتمديد القسري لمن يمثّل توجّه إلغاء الآخرين (إميل لحود) وباغتيال اتفاق الطائف عبر اغتيال رفيق الحريري، لأن اغتياله جسّد الاغتيال الفعلي لهذا الاتفاق، ولأنّ المعادلة كانت تلازم الحريري مع الطائف”.
واعتبر أنّه “بعد الاغتيال بدأ سلاح ما يسمى بالمقاومة يُوَجّه إلى الداخل، وكان طوفان الناس في 14 شباط ثم 14 آذار للمطالبة بخروج الجيش السوري وأدواته. ولكنه خرج، وبقيت أدواته بقوّة ما فتئت تزداد قوّة يوماً يوم، حتى رأيناها مكشّرة عن أنيابها في 7 أيار 2008 وارتكبت ما لم يكن لبناني يتخيّل أن يحصل في لبنان، تحت اسم سلاح المقاومة”.
لسنا مكبّلين بحيث نرهن قرارنا ولا نقطع أمراً ولا نقيم حلفاً إلاّ بعد استئذان القيادة السعودية
وشدّد بارودي على أنّه “لا يمكن أن ينسى أحدٌ كلام حسن نصرالله عندما قال إنّ “السابع من أيار يوم مجيد”، وأنه قام به “حتى لا ينساه أحد”. وهذا أمرٌ لا يقدّرون أبعاده، لأنّ من يحمل السلاح عدواناً، يفوته الإباء والنخوة، فيظنّ شرفه في سلاحه.. نحن شرفنا في كرامتنا وعزّتنا، وهذا الكلام لن يمرّ لأنّه طعن في وجودنا وجذورنا، وهل اليوم المجيد يكون بالاعتداء على الأبرياء وعلى قناة تلفزيونية وعلى حريات الناس. فما هذا المجد الذي تبنونه على إذلال الناس؟”
يرفض الشيخ بارودي أيّ اتهام للسُنّة بالارتباط بالخارج فـ”نحن مرتبطون بالخارج من خلال التاريخ. فعندما ننظر إلى المملكة العربية السعودية، نرى تاريخنا في أرض الحرمين. ولكننا لسنا مكبّلين بحيث نرهن قرارنا ولا نقطع أمراً ولا نقيم حلفاً إلاّ بعد استئذان القيادة السعودية. والأمر نفسه بالنسبة لبقية الدول العربية والإسلامية. فنحن لا نرتبط تنظيمياً بأيّ دولة، لأنّ الجغرافيا اللبنانية، بمناخها وتضاريسها، تدلّ على أنّ أهل هذا البلد لا يقبلون التبعيّة لأحد، وإلاّ فإنّ لبنان سينتهي”.