عاش الدكتور فيليب سالم، الطبيب المتخصّص بمعالجة السرطان فترة الحرب في لبنان من العام 1975 حتّى العام 1986. أي أنّه خبر عن قرب التهابات السياسة اللبنانية وعوارضها الخطيرة خصوصاً عندما تنجرّ إلى العنف، وأحياناً كثيرة تكون الأضرار الجانبية للعلاج الذي يقدّم لها أخطر من عوارضها نفسها. والأمثلة على ذلك كثيرة وأبرزها في تاريخ الحرب – التي يرفض تسميتها بالـ”أهلية” – الاستعانة بـ “قوات الردع العربية” في العام 1976. تلك التي عوض أن تكون جزءاً من الحل أصبحت جزءاً من المشكلة، بعد أن باتت سوريةً بحت.
إقرأ أيضاً: فيليب سالم لـ”أساس”: لقاح كورونا آخر هذه السنة ومنظمة الصحة العالمية فاسدة
ولعلّ تجربة واحد من أشهر الأطباء في العالم مع الحرب، تجعله شديد الحساسيّة تجاه مشاهد العنف في الثورة اللبنانية. برأيه أنّ الثورة عندما تلجأ إلى العنف تسقط، وأنّها كما أيّ جسم حيّ تحتاج رأساً وإلا غرقت في الفوضى. وبرأيه أيضاً أنّ لبنان بات ساحة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، و”هذا خطر كبير عليه”.
إلى ذلك يتخوّف سالم من أن يدفع الجوع لبنانيين كثيرين إلى الهجرة، فيصبح لبنان “الذي استقبل مئات آلاف اللاجئين مصدّراً للاجئين من أبنائه إلى دول العالم”… “فنرى حينها متسوّلين لبنانيين في باريس ولندن ونيويورك”.
التغيير يكون من خلال الثورة الحضارية. نحن يجب ألّا نشتم أحداً، وألّا نذهب إلى بيت شخص ما ونهاجمه
في الجزء الثاني من حوار “أساس” معه، يقول الطبيب في مستشفى “الجامعة الأميركية في بيروت” سابقاً: “في لبنان ليس لدينا أيّ أمل دون الثورة”. لكنّه في الوقت نفسه يؤكد أنّ الثورة التي يؤمن بها ليست ضد أشخاص بل ضدّ الثقافة السياسية التي حكمت لبنان منذ الاستقلال، وتوّجت حديثاً بالفساد والفوضى.
ويضيف: “نحن نريد أن نغيّر هذه الثقافة السائدة، لكنّي أؤمن أن التغيير يكون من خلال الثورة الحضارية. نحن يجب ألّا نشتم أحداً، وألّا نذهب إلى بيت شخص ما ونهاجمه. حتى إذا أتى أشخاص يريدون ضربنا نُعطيهم وروداً. نحن مع تغيير الطبقة السياسية، لكن بواسطة تغيير جذري للثقافة السياسية وللمدرسة السياسية التي حكمت بلدنا لعقود”.
يشرح طبيب السرطان أنّ الثقافة التي يريد تغييرها، بمعنى التخلّص منها، هي تلك التي تؤمن بأنّ الدولة بقرة حلوب نستفيد منها، وأنّ السلطة هي تسلّط على الناس. وإذ يشدّد على أنّ “الثورة هي الحلّ الوحيد”، يشير إلى “وجوب الارتفاع إلى الحضارة، وإلا سننحدر إلى الفوضى وستموت الثورة”.
– أليست بعض أساليب المتظاهرين على قدر الظلم الذي يشعرون به؟
يجيب سالم: “أنا أقدّر وجع اللبنانيين وألمهم، لكن إذا استعملنا الآليات التي نستعملها الآن، فلن ننجح. ليس هناك قيادة موحّدة. والحياة كما كلّ شيء حيّ تحتاج رأساً. إذا لم يكن هناك رأس أو قيادة للثورة فستعمّ الفوضى”.
لبنان ليس دولة فقيرة، بل إنّ أيّ دولة في العالم لا تملك ما يملكه لبنان
يعتبر سالم أنّه عندما بدأت الثورة في 17 تشرين الأول الماضي التفّ الناس حولها، لكن عندما يلجأ المحتجون إلى الفوضى والشتائم والعنف وتكسير المحالّ التجارية، فهذا يضعف حاضنتها الشعبية. ويقول: “الشخص الذي يملك متجراً في ساحة الشهداء هو أمانة في عنق الثورة. لذلك يجب ألا يتعرّض محلّه الذي بناه من جنى عمره للتكسير والحرق. نحن ضدّ كلّ أمر فيه شيء من العنف، والثورة التي تستعمل العنف تنجح على المدى القصير لكنّها في النهاية تتهاوى وتسقط”.
لبنان، وفقه، ليس دولة فقيرة، بل إنّ أيّ دولة في العالم لا تملك ما يملكه لبنان… “نحن لدينا الإنسان العظيم، المناخ العظيم، الجبال والمياه. في الشرق الأوسط كلّه ليس هناك دولة تنبع المياه من جبالها وتصبّ في بحرها. لدينا كلّ المؤهلات لكي نكون دولة عظمى. لكن انظر إلى أين وصلنا لأنّ القيادات السياسية التي توالت على الحكم، كانت تنتمي إلى ثقافة سياسية لا يمكن أن توصل إلى بناء دولة”.
يلفت سالم إلى أنّ “ما نريده هو بناء دولة، ولدينا كلّ المقوّمات لذلك”. ويشرح: “شرط الدولة العظمى ليس القوة العسكرية. نحن لدينا الإنسان اللبناني المتمرّد الذي استطاع أن يصمد طوال 45 سنة من الحروب والنزاعات، وبقي مرتبطاً بأرضه ووطنه، ولم يهاجر”.
يضيف: “استقبلنا كلّ اللاجئين، لكن لم نصدّر لاجئين، ولم نطلب من الأمم المتحددة قرشاً لنعيل لاجئاً لبنانياً. أمّا الآن، وقد وصل كثير من اللبنانيين إلى حافة الجوع فسيصبح هناك لاجئون لبنانيون ومتسوّلون لبنانيون في مدن مثل باريس ولندن ونيويورك. وهذا ما لم نره يوماً”.
– هل هناك تخوّف إذاً من موجة هجرة كبيرة من لبنان…
يجيب سالم: “هذا أكيد. فعندما يفقد اللبناني الأمل سيهاجر، لأنّه طموح ويريد عيش حياة كريمة، ولن يرضى أن يعيش في الذلّ الذي أوصله إليه السياسيون”.
في الطريق إلى أهدافكم إيّاكم والعنف، فالعنف هو العدو الأول للثورة
ويسأل: “كيف سيسكت هذا الشعب؟”، فبرأيه أنّ السكوت أمام الظلم جريمة، ولذلك “يجب ألا نسكت، لكن يجب ألا نعتدي على الشخص الذي لا نوافقه الرأي، وألا نفرض رأينا على الآخرين. بل علينا أن نقدّم طرحاً سياسياً ونسعى لنجاحه. فلا نريد أن ننتصر بالقوّة على الآخرين”.
ثمّ ينتقل الدكتور سالم للحديث عن الظروف السياسية في المنطقة وتأثيراتها على لبنان، فيرى أنّ ما يحصل في بيروت هو ارتداد للنزاعات والصراعات الحاصلة في المنطقة، “لكن هذا أيضاً نتيجة غياب القيادات السياسية التي تحفظ لبنان”.
ويقول الطبيب، العضو في “الحزب الجمهوري” الأميركي: “لبنان كان كلّ عمره ساحة، واليوم هو ساحة صراع بين الأميركيين والغرب من جهة، وبين إيران من جهة ثانية. وما يحصل في لبنان اليوم هو نتيجة الضغط الأميركي لتركيع إيران وجرّها إلى المفاوضات”.
برأيه “نحن اليوم أخطر ساحة، لأنّها بين دولة كبيرة مثل أميركا، وبين أخرى كبيرة إقليمياً مثل ايران”، ويتابع: “نريد أفضل العلاقات مع إيران، وهي دولة عظيمة ولديها تاريخ عظيم، لكنّنا لا نقبل أن يحكمنا أحد”.
من جهة ثانية فإنّ سالم، الذي غادر لبنان إلى الولايات المتحدة في العام 1986، يرى مشتركاً واحداً بين الاحتجاجات في لبنان وتلك التي اندلعت في المدن الأميركية عقب مقتل الرجل الأميركي الأسود على يد شرطي أبيض، وهو “غياب العدالة”. ويقول: “عندما تغيب العدالة تسقط الدولة. وما قام به هذا الشرطي ليس ضدّ رجل أسود فحسب، بل ضدّ الإنسانية كلّها، ولذلك هو عار على أميركا. كما أنّ الذل الذي أوصلتنا إليه القيادات السياسية في لبنان يجعل من العار على العالم أن يقف موقف المتفرّج على مأساتنا”.
لكنّ العالم ضجر، برأيه، من مساعدة لبنان “لأنّ كلّ دولار دُفع لمساعدة لبنان ذهب إلى جيوب السياسيين، ولا يزال الوضع هكذا”.
بالرغم من ذلك، فهو متفائل بأن يتخطّى لبنان أزمته: “مرّ لبنان بأوضاع أخطر من التي يمرّ بها الآن وتخطّاها. لبنان لن يموت. يقتلونه كل يوم ولكنّه يرفض أن يموت، ويجب ألّا يموت أملنا به”. ويختم مخاطباً أهل الثورة: “في الطريق إلى أهدافكم إيّاكم والعنف، فالعنف هو العدو الأول للثورة”.