في الشكل، تمكّن اجتماع بعبدا المالي من التوصّل إلى تفاهم حول توحيد الأرقام المتعلّقة بحجم الخسائر أمام صندوق النقد الدولي، بحضور رئيسي الجمهوريّة والحكومة وحاكم مصرف لبنان والمدير العام للماليّة ومجموعة من المستشارين. وفي الأيام الماضية، حاولت أوساط رئيس الحكومة تسويق هذا التفاهم إعلاميّاً كانتصار له، في وجه حاكم المصرف المركزي الذي سلّم بأرقام خطّة الحكومة الإصلاحيّة كمنطلق صالح لاستكمال المفاوضات مع صندوق النقد.
لكن بمعزل عما جرى التفاهم عليه، يبدو أنّ لسلامة معارك كبيرة مقبلة تتجاوز مسألة مقاربة الخطّة للخسائر، وتتصل بالحلول التي سيتم اعتمادها، كما يبدو أن الرجل ما زال يملك أوراقه المؤثّرة التي يستطيع أن يلعبها في وجه الخطّة الحكوميّة ومن يقف وراءها. باختصار، عراضة “انتزاع” اعتراف سلامة بالخسائر مجرّد قنبلة صوتيّة محدودة الأثر، وهذا ما يثبته تسرّب ما قاله الرجل في اجتماع بعبدا نفسه: “إذا طُبّقت خطّة الحكومة، فنحن ذاهبون إلى كارثة… يصطفلوا”.
إقرأ أيضاً: المصارف خسرت 25 مليار دولار من ودائعها في 10 أشهر
منذ البداية، عبّر سلامة عن تحفّظات كبيرة على طريقة مقاربة الخطة الحكوميّة لمسألة الخسائر في القطاع المالي. فسلامة اعترض مثلاً على افتراض الخطّة بأن المصارف ستخسر 30% من محفظة القروض التي منحتها للقطاع الخاص، بفعل تعثّر هذه القروض، كونه يعتبر أن الغالبيّة الساحقة منها ممنوحة لقاء ضمانات عقاريّة، ومن الممكن سدادها من خلال تسييل هذه العقارات تدريجيّاً وبيعها لبعض المودعين في المصارف، كما يجري الآن في السوق العقاري. كما رفض سلامة التقديرات التي قدّمتها الخطّة بوجود ما يقارب 43.8 مليار دولار من الخسائر في ميزانيّات المصرف المركزي، معتبراً هذا الرقم بمثابة “أرباح مرحّلة”، أي تكاليف تحمّلها مصرف لبنان وأجّل تسجيلها بانتظار سدادها لاحقاً من أرباح وإيرادات المصرف المركزي المستقبليّة.
بحسب مصادر مصرفيّة متنوّعة لـ”أساس”، ارتبط بعض هذه التحفّظات بمعطيات ماليّة متينة يملكها الحاكم، خصوصاً في ما يتعلّق بتحفّظات سلامة على طريقة احتساب الخسائر المتوقّعة نتيجة تعثّر قروض القطاع الخاص، ومدى قدرة الضمانات المرتبطة بها على سدادها. لكنّ البعض الآخر من تحفّظاته، يناقض بعض بديهيّات أصول العمل المصرفي، وبالأخص لجهة ما يعتبره الحاكم “أرباحاً مرحّلة”. فعمليّة “ترحيل الأرباح” إجراء تقوم به المصارف المركزيّة عادةً لتأجيل تسجيل تكاليف ترتّبت عليها على مدى فترة زمنيّة محدودة جدّاً، وبمبالغ صغيرة قياساً بحجم ميزانيّاتها، لكنّ مصرف لبنان ثابر على مراكمة هذه المبالغ على مدى فترة زمنيّة تجاوزت الـ20 سنة، كما أنّ حجم هذه المبالغ تجاوزت قيمته الـ30% من حجم ميزانيّة المصرف المركزي. بمعنى آخر، أصبحت هذه المبالغ خسائر ضخمة متراكمة في الميزانيّات، وليست مجرّد تكاليف بسيطة سيتمكّن المصرف المركزي من سدادها من إيراداته خلال سنوات قليلة مقبلة.
أولى أوراق سلامة تكمن في تقاطعه مع الإدارة الأميركيّة على مسألة الحساسيّة من حصول تحوّل مفاجىء وكبير في هويّة مالكي القطاع المصرفي اللبناني، كون هذا الأمر سيعني إعطاء أطراف جديدة القدرة على الولوج إلى النظام المالي العالمي
عمليّاً، يبدو أن الحاكم اختار في اجتماع بعبدا أن يقدم على تراجع تكتيكي، من خلال تفادي الدخول في مواجهة مباشرة تتعلّق بطريقة احتساب الخسائر. ولعلّ هذا التراجع يعود بشكل أساسي إلى عدم رغبة الحاكم في الظهور إعلاميّاً بصورة الطرف المعرقل لمسار المفاوضات مع صندوق النقد، خصوصاً أن الصندوق طلب في بداية المفاوضات توافق الحكومة مع المصرف المركزي على الأرقام المتعلّقة بالخسائر الماليّة، وبدا في ذلك الوقت أنّ مشاكسة الحاكم واعتراضه على أرقام الحكومة قد يؤدّي إلى تعثّر المفاوضات في بداياتها.
باختصار، لم يرغب الحاكم بتحمّل مسؤوليّة فشل المفاوضات، خصوصاً أن مسارها الحالي مليء بأسباب التعثّر بمعزل عما سيقوله، وبمعزل عن أحقيّة تحفّظاته. وقد بدا واضحاً أنّ خلافه مع الحكومة حول طريقة احتساب الخسائر يرتبط بشكل أساسي بنوع المعالجات التي ستذهب إليها الحكومة، وبالأطراف التي ستتحمّل هذه الخسائر. فحين تقدّر الخطّة وجود خسائر معيّنة في ميزانيّة المصرف المركزي أو المصارف، فهي ستتجه حكماً إلى معالجات ستحمّل هذه الميزانيّات جزءاً من خسائر الانهيار المالي الحاصل.
لكنّ التسليم بالأرقام المتصلة بالخسائر، لا يعني أنّ سلامة تراجع عن أولويّاته وخطوطه الحمر في ما يتعلّق بالمعالجات التي ستذهب إليها حكومة دياب، كما لا يعني أن سلامة تنازل عن تحفّظاته اتجاه مقترحات الخطّة. فهو يملك مثلاً تحفّظات كبيرة على مبدأ شطب رساميل المصارف الحاليّة، واستبدال مساهميها الحاليين بمساهمين آخرين من أصحاب الودائع المصرفيّة. وبالنسبة إليه، تنطوي هذه المسألة تحديداً على تحوّل خطير في طبيعة الأطراف الممسكة بالقطاع المصرفي اللبناني، وهذه مسألة حسّاسة تاريخيّاً بالنسبة إلى المصرف المركزي الذي لطالما اشترط أن يدرس بدقّة متناهية أي عمليّة بيع كبيرة لأسهم المصارف قبل الموافقة عليها.
هكذا، يبدو أن سلامة بدأ بالنظر إلى المرحلة الثانية من مواجهته مع الخطة الحكوميّة، وهي تحديداً مرحلة التفاوض على المعالجات المحتملة لشطب الخسائر. ومن الواضح أنّ انتقاله إلى مرحلة التفاوض على المعالجات، في مقابل تجاوزه لمرحلة النقاش حول الخسائر في اجتماع بعبدا، يتصل بأوراق قوّة يملكها الرجل في وجه الخطّة والمعالجات التي تقترحها.
ولعلّ أولى أوراق سلامة تكمن في تقاطعه مع الإدارة الأميركيّة على مسألة الحساسيّة من حصول تحوّل مفاجىء وكبير في هويّة مالكي القطاع المصرفي اللبناني، كون هذا الأمر سيعني إعطاء أطراف جديدة القدرة على الولوج إلى النظام المالي العالمي. وعمليّا سيلعب هذا العامل دوراً حاسماً في تعديل الخطط الحكوميّة، خصوصاً أن الولايات المتحدة تملك النفوذ الأكبر داخل صندوق النقد. كما يتقاطع سلامة في هذه النقطة مع الكثير من الأطراف المحليّة التي يشارك بعضها في الحكومة، كحال النواب العونيين. وهذا ما ظهر في اجتماعات لجنة تقصّي الحقائق المتفرّعة عن لجنة المال والموازنة.
باختصار، لا يعني تجاوز سلامة للنقاش حول الخسائر أنّ الرجل خسر شيئاً في مواجهته المفتوحة مع خطّة الحكومة. فالنقاش حول الخسائر لم يأتِ أساساً إلا بهدف البناء عليها عند التفاوض لاحقاً على المعالجات. وتطوّرات الأيام الماضية تثبت أنّ تراجع سلامة عن النقاش حول الخسائر لم يكن سوى خطوة تكتيكيّة، هدفت إلى تجاوز النقاش الذي لا يملك الكثير من أوراق القوّة فيه، للوصول إلى مرحلة التفاوض على الحلول والمعالجات التي يملك فيها الكثير من أوراق القوّة.