عندما يلجأ وليد جنبلاط إلى سياسة التبريد في الداخل، يعني أن الحامي آتٍ من الخارج. لا يلحم جنبلاط “أنتينه” الحامي على صعقات خارجية حامية. يختار لحظة التهدئة، كما يجيد اختيار أوان التصعيد والمواجهة. على طريقته عندما قال لنصر الله:” أخاصم رجالاً وأصادق رجالاً”.
منذ فترة عمّم على كلّ كوادر حزبه بوجوب التهدئة ووقف السجالات الإعلامية والمعارك السياسية. لا حاجة لها، ولا داعي للدخول في مواجهات ليس أوانها طالما أن الحرب مفتوحة بين الآخرين، وهذه الحرب تخوضها واشنطن بشكل مباشر، يغيب عنها العرب ويفترض ألا يدفع ثمنها اللبنانيون، سواء نجحت أم لم تنجح. الأشهر المقبلة، ستحمل الكثير من التطوّرات والتصعيد والضغط، وجنبلاط يعود إلى جملته الشهير: “عند صراع الدول والأمم، احمِ رأسك”.
إقرأ أيضاً: جنبلاط يُهدي الحريري قفلاً وممحاة
هذه الاستراتيجية لا تندرج في سياق التراجع ولا الخوف، إنّما تنطلق من تقدير الوقائع، واحتسابها في ميزان “الجوهرجي”، بعد مراجعة تاريخية. وهو يبدأ من تقدير واقعي للحجم والدور والغاية، ومن غريزة حماية الوجود والحفاظ عليه. يضرب حيث وجب الضرب ويُقدم عندما يحاول البعض خنقه أو تطويقه. لا يمضي في المعركة إلى حدّ المكاسرة، إنما ليرسم حدوداً وخطاً لا يمكن تجاوزه. كما حصل في قبرشمون، كذلك في آخر معركة خاضها مع هذه الحكومة والعهد الذي يرعاها، فطُلب منه التهدئة وعقد لقاءً مع رئيس الجمهورية. كان طلال أرسلان يظّن نفسه معبر جنبلاط الوحيد إلى بعبدا، كما ظنّ ذات يوم أنّه معبره إلى سوريا في العام 2009. خابت آمال أرسلان، وجد نفسه معزولاً، خسر درزياً، وأيقن أنه استُخدم غبّ الطلب في معارك، وعند الجدّ أُبعد ليحضر جنبلاط.
يُقدم جنبلاط على خطوات التهدئة والتبريد، وسط ترقٌب لحرائق قابلة للاشتعال في لبنان ومن حوله. على طريقته يسجّل موقفه للتاريخ. وإن أظهره الموقف أنّه مخطئ في الحسابات، أو يستدعي دعوة من نصر الله مثلاً إلى “تظبيط الأنتينات”
سارع رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني في اليوم التالي لزيارة جنبلاط إلى بعبدا، للقاء الرئيس نبيه بري. طلب منه عقد لقاء مصالحة مع جنبلاط، لأن الوضع في الجبل غير صحّي، ولا بدّ من ترتيب العلاقة، وإنجاز المصالحة قبل الثلاثين من حزيران، الذكرى السنوية الأولى لمعركة قبرشمون، أجابه برّي سريعاً: “منيح اللي عرفت إنّو الوضع بالجبل مش منيح”.
في الجوهر الدرزي لا يمكن للضعيف أن يستمرّ، ولا يمكن للمستتبَع أن يُتبع. التمسَ أرسلان خسارته في الشارع الدرزي، فيما كان جنبلاط يثبت قوته، فلجأ “المير” إلى سياسة الحدّ من الخسائر. فاتح نبيه بري وليد جنبلاط بالأمر. فأخذ البيك وقته: أربعة أسابيع قبل تحديد الموعد. وكأنّه يقول: “أنا من يختار الوقت المناسب، وأنا من يختار المكان”. فكانت الصلحة برعاية رئيس المجلس.
يُقدم جنبلاط على خطوات التهدئة والتبريد، وسط ترقٌب لحرائق قابلة للاشتعال في لبنان ومن حوله. على طريقته يسجّل موقفه للتاريخ. وإن أظهره الموقف أنّه مخطئ في الحسابات، أو يستدعي دعوة من نصر الله مثلاً إلى “تظبيط الأنتينات”. ما هي إلا أسابيع أو أشهر وتثبت دقّة ما ترصده أنتينات البيك. في لبنان كما في سوريا، عندما أخذ موقفاً مبكراً داعماً للثورة السورية، خيّر دروز السويداء بين من يكون مع المعارضة ومن يكون خائناً في عداد النظام ومشاريعه. انقسم الدروز هناك، تردّد الكثير منهم، في الانخراط في معارضة النظام عندما كانت الثورة تجتاح المحافظات السورية كلها. واليوم “ها هي السويداء قد عادت إليه، تخرج وحيدة تطالب بإسقاط النظام، وتعيد ضخّ الدم في عروق الثورة على كلّ التراب السوري”.
يبقى نبيه برّي الحليف الثابت والدائم. بين يديه مبادرات وخيوط كثيرة. وقت الحاجة، يكون ملجأ جنبلاط، وحزب الله والجميع
اللحظة تاريخية، قابلة لتكرار نموذج الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش. والتي يومها تلاقت مع متغيّرات ومعطيات إقليمية ودولية، أسقطت مشروع الجنرال غورو بتقسيم سوريا إلى خمس دويلات. فانتصر السوريون لمشروع سوريا الموحّدة. شيء شبيه يتكرّر هذه الأيام، في ظلّ الضغوط الأميركية، وتشديد العقوبات، والسعي إلى تحجيم النفوذ الإيراني، والبحث الروسي الأميركي عن تسوية تؤسّس لمرحلة انتقالية في سوريا يرحل خلالها رأس النظام أو تُسحب صلاحياته وتؤول إلى مجلس انتقالي.
يعيّن جنبلاط أصدقاءه وحلفاءه، كما يعرف من يخاصم، متى وكيف. يبقى نبيه برّي الحليف الثابت والدائم. بين يديه مبادرات وخيوط كثيرة. وقت الحاجة، يكون ملجأ جنبلاط، وحزب الله والجميع. شهدت عين التينة على مصالحتين أساسيتين، بين حزب الله والحزب التقدمي الإشتراكي، وبين جنبلاط وأرسلان. ربح رئيس التقدمي الكثير في علاقته مع برّي، ويعود إلى عين التينة كثر في المرحلة المقبلة، الرئيس سعد الحريري، وسليمان فرنجية، وربما في الأيام المقبلة شخصيات مسيحية أخرى. أكثر ما يلتقي عليه بري وجنبلاط، هو عدم اقتراف الأخطاء الاستراتيجية.