قصّرت السلطة في تلبية حاجات المواطنين من الدولار، فلجأت إلى خطة أخرى تقوم على خنق الطلب. لكن يبدو أنّ آلية هذه الخطة التي بدأ العمل بها قبل يومين، تسبّبت بفوضى عارمة، سادت سعر الصرف في “السوق السوداء”، الذي انقسم على نفسه إلى سوقين. السوق الأول “فوق الطاولة” يجري التداول فيه وفق السعر الذي تصدره نقابة الصرّافين صباح كلّ يوم ويخصّ التجار والمستوردين الذين يحجزون طلباتهم من الدولار قبل يوم أو يومين، والثاني سوقٌ أشد سواداً وأسعاره ملتهبة، ويجري التداول بها “تحت الطاولة”، مهمته إشباع رغبات الأفراد والتجار غبّ الطلب السريع، من أولئك الذين لن يحالفهم الحظ في حجز دور على لائحة “دولارات مصرف لبنان”.
إقرأ أيضاً: انقلاب “صرّافي الضاحية” + انهيار الليرة السورية: الدولار إلى 5000
السعر الأول ثابت منذ نحو 10 أيام عند سعر 3890 للشراء و3940 ليرة لبنانية للمبيع، ولم ينخفض إلا 30 ليرة لبنانية في اليومين الماضيين، فيما سعر الصرف الثاني يتأرجح بين 5000 و5200 ليرة، ما يعني أن الآلية التي فرضتها السلطة على مصرف لبنان لم تأتِِ بأيّ نتيجة على غرار ما تمناه الرئيس نبيه بري من قصر بعبدا، وإنما على العكس من ذلك، فقد خلقت سوقاً إضافياً متفلّتاً، تحاول ضبطه أمنياً مثلما تقول ذلك كلّ مرة وتفشل.
واحد من صرّافي العاصمة بيروت، قال لـ”أساس” إنّ المصرف المركزي “بدأ يمدّنا بالدولارات كاش التي نبيعها إلى التجار والمستوردين، لكن بشرط أن يكونوا قد ثبّتوا طلباتهم قبل يوم أو يومين، وقدّموا لنا المستندات التي حدّدتها الآلية. نعطي المصرف المركزي الليرة اللبنانية، فيعطينا بالمقابل هذه الدولارات وفق تسعيرة النقابة”.
هذه الآلية “طوشة راس” وبلا فائدة بالنسبة إلى الصرّافين، وهي مجرّد “شحادة مش تجرة”، لأنّ هامش الربح فيها لا يتخطّى عتبة الـ10 ليرات لبنانية في كلّ دولار واحد فقط
سألنا الصرّاف إن كان مصرف لبنان يشحن هذه الدولارات من الخارج بواسطة صرّافي الفئة “أ”، فردّ بأنه لا يعلم، لكنه افترض بأنها من احتياطي مصرف لبنان الخاص، متوقعاً “ألّا يستمر المصرف المركزي بهذه السياسة أكثر من 15 يوماً” لأنّ السوق مثل “المكنسة الكهربائية” تشفط الدولار كشفط الغبار، ولن يقوى “المركزي” على مجارة الطلب الرهيب. فالاستمرار بهذه السياسة هو استنزاف للاحتياطي وانتحار.
الصرّاف عزا هذا الواقع إلى أزمة الثقة بين المواطنين وبين السلطة والمصرف المركزي والمصارف. في نظره، فإنّ اللبنانيين ما عاد لديهم ثقة بكلّ من سبق ذكرهم، ولهذا يتهافتون على شراء الدولارات ويخزنوها في بيوتهم من أجل الحفاظ على قيمة مدخراتهم.
هذه الآلية “طوشة راس” وبلا فائدة بالنسبة إلى الصرّافين، وهي مجرّد “شحادة مش تجرة”، لأنّ هامش الربح فيها لا يتخطّى عتبة الـ10 ليرات لبنانية في كلّ دولار واحد فقط. “وفي كلّ 100 ألف دولار نربح 200 دولار فقط” يقول الصرّافون. هذا إلى جانب نفقات موظفين يقصدون المصرف المركزي طوال النهار لملاحقة عملية تقديم المستندات وتسليم استلام الأموال، ناهيك عن الزحمة التي “تتسبّب بها على باب محلاتنا وخارجها. نحن نرضى بهذا الأمر حتى تكفّ السلطة شرّها عنا”. تبدو هذه الآلية محاولة لإلهاء الصرّافين وإغراقهم في الإجراءات الإدارية من أجل تقليل حجم أعمالهم وبالتالي، تقليل نسبة المضاربة والتلاعب، استطراداً، بسعر صرف الليرة.
ويبدو أنّ كلام الصرافين عن “كفّ شر” السلطة لم يكن بعيداً عن تصريح رئيس الحكومة حسان دياب خلال الاجتماع الأمني المالي الذي عُقد الإثنين بحضور عدد من الوزراء وقادة الأجهزة الأمنية، محمّلاً إياهم مسؤولية “طريفة” تتعلّق بضرورة التحقيق في سبب “وقف بيع الناس لدولاراتهم”، على ما نقل لـ”أساس” بعض من حضروا الاجتماع.
إذا كانت سياسة حزب الله هي التي تقدّر حجم استيراد لبنان من المازوت، لماذا يتعب الحاكم بالأرقام
وقد أُفيد دياب من قادة الأجهزة الأمنية بأنّ الأحداث الأخيرة التي وقعت في العاصمة، وأدت إلى حرق المحالّ في وسط بيروت وطرابلس، إضافة إلى الصدامات في عين الرمانة وكورنيش المزرعة، قد خلقت حاجز خوف لدى الناس ودفعتهم نحو التريث في بيع الدولارات.
لعلّ هذه المعطيات تكشف أنّ الأيام القليلة المقبلة قد تشهد المزيد من الحملات الأمنية والتشدّد في معاقبة الصرّافين، الشرعيين وغير الشرعيين، المخالفين لتسعيرة النقابة “المشوّهة” و”العاجزة”. كما تتقاطع مع معلومات تؤكد أنّ المديرية العامة للأمن العام بدأت أمس الثلاثاء، أولى حملاتها ضد المخالفين بعد تكليفها بمتابعة الملف بالتنسيق مع باقي الأجهزة الأمنية من خلال غرفة عمليات في منطقة السوديكو، وقد انتدب اللواء عباس ابراهيم، العميد جوني الصيصة من أجل متابعة هذا الملف.
مصادر خاصة لـ”أساس” كشفت أنّ المصرف المركزي “مستمر بسياسة بيع الدولارات للسوق”، وهو أمر يصفه مراقبون على أنه “إذعان” للسلطة السياسية ولن يأتي بالنتيجة المرجوة. المصدر نفسه أكد أن المركزي باع الصرّافين في اليومين الفائتين نحو 5 ملايين دولار يومياً، وأنّ هذا الرقم برغم أنّه “عاجز عن سدّ الطلب كاملاً” لكنه سيؤمن حاجات التجار في حدودها الدنيا وعلى مراحل من أجل شراء المزيد من الوقت، وهذا سيزيد من حاجة المواطنين، أفرداً وتجاراً، إلى دولارات “السوق السوداء” الملتهبة. ربما هذه الحقيقة تفتح النقاش واسعاً حول ما يُفترض أنه أجدى وأنجع من هذه الاجراءات كلها: متى تقتنع أن الأوان قد آن للاستيراد بالحد الأدنى.
سؤال آخر وليس الأخير، ألم يلاحظ البنك المركزي منذ بداية هذه السنة أنّ استيراد المازوت المدعوم فاق استيراد سنة 2019 بكاملها؟ أم أنّ السياسة تفرض غضّ النظر؟ وإذا كانت سياسة حزب الله هي التي تقدّر حجم الاستيراد للبنان وسوريا من المازوت، لماذا يتعب الحاكم بالأرقام. فليعطهم ما لديه من احتياط أموال المودعين ويذهب إلى المنزل. ألا يكفيه ما فعل منذ سنوات بمد الدولة بأموال الناس؟