على الرغم من الإجراءات التي تتّخذها القوى الأمنية بحقّ الصرافين المخالفين، الشرعيين وغير الشرعيين، لا يزال سعر صرف الدولار يواصل ارتفاعه أمام الليرة، إذ سجّل في الأيام القليلة الماضية أرقاماً قياسية جديدة، بلغت حدود 4300 للشراء و4400 ليرة للمبيع.
وقد كان موقع “أساس” أوّل من كشف علاقة الصرّافين بالتلاعب بسعر صرف الليرة، ونشر أكثر من 62 عنواناً لصرّافين غير شرعيين، وأشار إلى ضرورة توقيف المتلاعبين، وغير الشرعيين.
لكن لم تجدِ نفعاً الإجراءات الأمنية. وتوقيف نقيب الصرافين محمود مراد وعدد من زملائه في بعض المناطق، وختم محالهم بالشمع الأحمر واقتيادهم إلى المراكز الأمنية وحلق رؤوسهم على طريقة المخابرات السورية ومصادرة دولاراتهم، كلها إجراءات لن تجدي نفعاً، لأنّ الحلول يجب أن تكون مشتركة بين الصرّافين والمصارف، وأوّلا بين مصرف لبنان والسلطة السياسية التي تدير الأزمة.
الخيار الأمني، من خلال اعتقال وترهيب الصرّافين ليس أسلوباً ناجعاً لضبط سعر الصرف، ولا وسيلة مُثلى لطمأنة الناس الخائفة على قدرتها الشرائية وعلى رواتبها، بل على العكس فإنّ النقمة التي خلّفتها هذه الممارسات العشوائية بحقّ الصرافين، يضاف إليها الإضراب المفتوح الذي أعلنته النقابة رداً على تلك الممارسات، عمّقت من الأزمة وزادت في منسوب الشحّ في الدولار وحاجة مستوردي السلع إلى العملة الصعبة، وبالتالي رفعت سعر صرف الدولار ليلامس 4500.
إقرأ أيضاً: “لعبة القطّة والفأر” بين الصرّافين والأمنيين… سعر “شبه رسمي” بـ3200 ليرة
نقابة الصرافين رأت في اجتماع استثنائي عقدته الجمعة الفائت أن “لا مواد جرمية تدين التعامل بالدولار الأميركي وفقاً لسعر السوق الفعلي”، متوجّسة من “تعزيز الانطباع لدى الناس بأنّ الصرّاف دائماً كبش محرقة”. النقابة أكدت أنّ عقوبة مخالفة التعاميم الرقابية، مسلكية تنص عليها “المادة 18” من قانون تنظيم مهنة الصرافة “لا تستوجب الحبس” طالما أنّ نطاق المخالفة يبقى محصوراً بها.
أما العقوبات في المادة المذكورة، فتكون على مخالفة التدابير المفروضة من قبل مصرف لبنان وأسباب إضافية أخرى، ويمكن إنزالها بحق شركات الصرافة مثل: 1. تنبيهها، 2. منعها مـن قيام بعض العمليات أو فرض أي تحديد أو تقييد آخر في ممارسة المهنة 3. مـنع صاحب المؤسسة من ممارسة المهنة نهائياً أو لوقت محدد، 4. شطبها من لائحة مؤسسات الصرافة. على أن يُقـرر حاكم مصرف لبنان العقوبة الإدارية المنصوص عليها في البند رقم (1) فيما تقـرّرها الهيئة المصرفية العليا المنشأة لدى مصرف لبنان في الحالات الأخرى”.
أحد الصرافين الذين أوقفتهم القوى الأمنية في منطقة الحمرا قبل نحو أسبوع، وهو رفض الكشف عن اسمه، قال في حديث لموقع “أساس” إنّ عناصرَ من تحرّي بيروت حضروا إلى محله للتحقّق من رخصته، وحين اطلعهم عليها لم يقتنعوا بها لأنّ إصدارها قديم، فاتصل بمصرف لبنان وأسمعهم عبر الهاتف تأكيدات من الجهات المعنية في المصرف أنّ رخصته سليمة وأنّ المصرف لم يُحدّث البيانات بخصوصها.
يروي الصرّاف أنّ “الدورية اتصلت بالمدعي العام المالي علي ابراهيم، وأخطرته بالتفاصيل فطلب منهم اقتيادي مع رخصتي، معتبراً أنّ لا علاقة له بما يقول مصرف لبنان”… وهكذا حصل، ثم يقول بأسى: “أوقفوني 4 أيام وختموا محلّي بالشمع الاحمر وتعرّضت للإهانة ظلماً وعدواناً. سألني القاضي أسعد بيرم عن تهمتي فما عرفت ماذا أجيبه. حكم باخلاء سبيلي بعد توقيعي تعهد بعدم مخالفة تعاميم مصرف لبنان، ودفعت سند كفالة بقيمة 500 ألف ليرة برغم عدم مخالفتي أي تعميم، ولم يصادروا من محلّي دولاراً واحداً”.
صرّاف آخر في منطقة المزرعة، خاف من التحدّث إلينا وظنّ أنّنا من طرف جهاز أمني يتعقّب تحركاته. تهرّب أكثر من مرّة لدرجة أنّه أقفل محلّه وعاد إلى منزله حين علم بزيارتنا له، لكنّنا علمنا بتفاصيل القصة من مقرّبين إليه.
يروي هذا الصرّاف أنّه قبل نحو أسبوع، دخل إلى محله ضابط في قوى الأمن الداخلي بلباس مدني وسأله عن سعر الصرف وإن كان قادراً على بيعه 100 ألف دولار، فأخبره أنه يلتزم بتسعيرة الـ3200 ليرة التي يحدّدها مصرف لبنان لكنه لا يملك دولارات للبيع. دخل الضابط خلف “الكونتوار” وأجبره على فتح الخزنة والأدراج فوجد أكثر من مئة ألف دولار. صادر الأموال واقتاده إلى المركز حيث حلقوا شعر رأسه ، ثم أخلى سبيله القاضي بعد أيام بموجب سند كفالة لأنّ “الاحتفاظ بالدولارات ليست تهمة”.
قصة صراف ثالث، أخبرنا إياها ميشال مكتّف، مالك شركة مكتّف للصيرفة، أوقفت القوى الأمنية ابنته واشترطت عليه تسليم نفسه أولاً ليطلقوا سراحها. يقول مكتّف مستهجناً: “القوى الأمنية باتت تأخذ الناس رهائن”.
مكتف الذي استدعاه النائب العام أمس وحقق معه ثمّ أخلى سبيله بموجب سند إقامة، مبقياً على قريبه رامز مكتف لشبهات التعامل مع الأخوين مراد بتجارة شيكات غير قانونية، يؤكد أنّه “من المهم التركيز على كوننا في بلد تحكمه المؤسسات والقانون”، ويعتبر أنّه “من غير المسموح أن يُدان مُتهم قبل ثبوت أيّ تهمة ضدّه”، داعياً للعودة “إلى الأصول ولتتصرف الدولة كدولة، لأن مخالفات كثيرة تُمارس بحقّ الصرافين”. ويسأل: “هل يُعقل أن نتغنّى بمعاييرنا العالمية في مكافحة كورونا ونتعامل في الأمور الأمنية بهذا الشكل؟”.
يقول مكتف إنّ الطريقة المثلى لضبط سعر الصرف هي في الحوار بين وزارة المالية ووزارة الاقتصاد وبين الصرافين ومصرف لبنان والمصارف: “الحلّ بإعادة الثقة بين اللبنانيين وبين كل هؤلاء. مصرف لبنان ما زال قادراً على اجتراح الحلول. لا أعلم إن كان المصرف ممتنعاً فعلاً عن التدخل، لكنّ سلوكه لا يوحي اليوم بأنه يتدخّل. فلنعترف، حتى لو كان كلامنا غير شعبي: الهجمة على الحاكم رياض سلامة كانت جزءاً من ضرب الثقة التي أنتجت هذا الخوف لدى الناس”.
لا أحد يدافع عن سلوك بعض الصرافين غير الشرعيين الذين تربط أغلبهم علاقات مشبوهة بجهات حزبية من ذات الأهداف المكشوفة. لكن في نهاية المطاف فإنّ الحل ليس أمنياً أبداً، فيما المسؤولية مشتركة وتخصّ الجميع
وعد مصرف لبنان في تعميمه رقم 149 بإطلاق منصة إلكترونية هدفها الدخول في السوق الموازي، لكنّه حتى اللحظة لم يطلقها. الهدف من المنصة هو ضبط سعر الصرف بالدرجة الأولى ثم تأمين الدولارات للصرافين الشرعيين والمواطنين ذوي الحاجة. حجة مصرف لبنان الدائمة لتأخير إطلاقها هي التحضيرات اللوجستية، إلا أنّ خبراء مصرفيين يشككون بذلك “لعدم قدرة مصرف لبنان على ضبط سعر الصرف من خلالها، وعدم قدرته على إقناع واشنطن بجلب الدولارات الورقية من خزينتها في ظلّ عدم جدّية الحكومة في التعاطي مع المواضيع الملحّة في نظر واشنطن”، مثل ضبط الحدود أو منع وصول هذه الدولارات إلى سوريا أو إلى إيران. هذه التهم ما عادت بعيدة أبداً عن أصحابها بعد الكشف عن تضخّم فاتورة المحروقات في لبنان وتهريب البضائع، ناهيك عن كشف القوى الأمنية مؤخراً عن اعتقال صرافين غير شرعيين من جنسيات غير لبنانية (إيرانية).
لا أحد يدافع عن سلوك بعض الصرافين غير الشرعيين الذين تربط أغلبهم علاقات مشبوهة بجهات حزبية من ذات الأهداف المكشوفة. لكن في نهاية المطاف فإنّ الحل ليس أمنياً أبداً، فيما المسؤولية مشتركة وتخصّ الجميع.
وزارة المالية مطالبة بالتنسيق مع الصرافين وضبط حركة أموالهم بطرق أكثر مرونة ودقّة، وكذلك وزارة الاقتصاد فهي مطالبة بتخفيف فاتورة الاستيراد من خلال تصنيف السلع وترتيب الحاجة إليها. حتّى المواطن يتحمل جزءاً من المسؤولية من خلال ضرورة ضبط الاستهلاك وإيلاء الأهمية والأولوية للسلع المحلية، في مقابل إهمال تلك الباهظة والمستوردة… وهذا كلّه سيخفف حتماً من التهافت على الدولار وسيضبط سعر صرفه بالتأكيد، إلى جانب إلزامية الحوار بين المصارف ومصرف لبنان ووزارة المالية، ومن خلفها السلطة السياسية.