اقتصادنا الجديد: استهلاك أقلّ = إنتاج أقلّ

مدة القراءة 6 د


الطرفة في هذه الأيام العجاف حين يخرج عليك أساطينُ النيوليبرالية المحليّة بحكمة “رواقية” زائفة من قبيل، أنكم تنعّمتم بالاقتصاد الفقاعي الذي بنيناه لكم، غير المسند الى أسس مادية مستدامة في السنوات الماضية، والمتعايش مع دائرة مخاطر داخلية وإقليمية كان محتوماً أن تطيح به، والآن جاء الوقت كي تعيشوا كما يفرض الواقع أن تعيشوا، وأن تصرفوا أقلّ، وأن تنافسوا بعضكم بعضاً في الزهد. أن تُصادَر ودائعكم في المصارف، وأن تنخسف معظم قيمة أجوركم، وأن يفقد قسم متعاظم منكم أجوره ومصادر رزقه من الأساس. كلّ ما عليكم فعله هو التزهّد والتصبّر، وتعلّم العيش بالإعاشة وبالقليل، ولما لا، برامج متلفزة ستلقّنكم “إتيكيت البساطة” في الحياة. وطبعاً، يمكنكم عجن هذا الزهد مع الانتظار بحرقة وبشوق لعودة كلٍّ من الأموال “المنهوبة” و”المهاجرة” و”المهرّبة”، ترقّبوها كما تترقّبون عودة مياه الأمطار من جوف البحار. 

إقرأ أيضاً: الصناعة تنتظر الإفراج عن التحويلات لشراء المواد الأوّلية

ليس قليلاً أن تنقلب الأدوار على هذا النحو. فمن كانت شغلته أن يسوّق لتوسعة المجتمع الاستهلاكي على أوسع نطاق، صار يحاضر في كيفية حلّ المشكلة “نفسياً”، بتعلّم الناس كيف يستهلكون بشكل أقل، تماشياً مع مصادرة ودائعهم وتضاؤل أَجورهم وخسارتهم لها والضعف المتمادي لقوتهم الشرائية. كلّ هذا مجتمعاً يمكن حلّه نفسياً، بالنسبة الى أهل التقليعة الجديدة، عندما يتعلّم الناس كيف يستهلكون بشكل أقل. ومن بنى كلّ منظاره على امتداد السنوات، على أن البلد ليس بحاجة إلا إلى ما قلّ ودلّ من صناعة وزراعة، صار اليوم يفاخر بالحكمة “الأوتارسية” (أي الممجّدة للاكتفاء الذاتي المنعزل تماماً. و”أوتارسية”: نسبة إلى الأوتارسية أو الأوتاركية، أي الاقتصاد المغلق المبني على اكتفاء ذاتي شامل في كلّ القطاعات بحيث لا حاجة له إلى الأسواق الخارجية)، بأن علينا أن نستهلك قدر ما ننتج. من لم يفهم سابقاً أن عليه ان ينتج أكثر كي يستهلك أكثر، لن يفهم اليوم أن الاستهلاك بشكل منخفض بالشكل الذي يدعو إليه سيزيد الطين بلّة أضعافاً مضاعفة. استهلاك أقل اليوم يعني المزيد من إقفال المشاريع التجارية، المزيد من الانكماش والكساد.

استهلاك أقل يعني إنتاجاً أقل، وليس العكس. لا يلغي ذلك أنّ العمل بشكل دؤوب وسريع على رفع نسبة الصادرات إلى الواردات هو منظار أساسي لمواجهة الكوارث الاقتصادية المتراكمة. لكنّ المدخل إلى هذا الرفع ليس أبداً “حيلة نفسية” يراد تعويد الناس عليها بالصلف وبالمكابرة وبمصادرة أموالهم وحقوقهم. رفع نسبة الصادرات إلى الواردات شرطه الأساسي إدراك أنّ الاستهلاك في السوق الداخلي ضرورة لحياة الاقتصاد الداخلي قبل أيّ شيء آخر، إلا إذا كان هناك من تأخذه تقليعة “الانتقال من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج” نحو تخيّل وضع جديد يستهلك فيه اللبنانيون بشكل أقل، وتغرق فيه الأسواق الخارجية بصادراتنا الزراعية والصناعية.

هل الدعوات إلى تنشيط الصناعة والزراعة موجّهة لتأمين حاجات السوق الداخلي أولاً (تخفيض حجم الواردات)، أو السوق الخارجي (رفع حجم الصادرات) أولاً؟ ليس هذا وذاك بالأمر نفسه.. أبداً.

التسليم بأن مجتمع الاستهلاك الكبير في لبنان انتهى، هو في الواقع تسليم بانتهاء البلد. استهلاك أقل = انتاج أقل. القاعدة نفسها تنطبق على السوق

لعلّ هذا الجحود لعتاة النيوليبرالية المحلية تجاه المجتمع الاستهلاكي ما يدعو في المقابل المتضرّرين من هذا النموذج الاقتصادي المنهار إلى إعادة اكتشاف محاسن الاستهلاك، بعد أن أطنبوا على امتداد السنوات في اعتبار الاستهلاك شيئاً مرذولاً، كما لو كان هناك إنتاج بلا استهلاك، أو استهلاك بلا إنتاج، في الحالتين. 

الدفاع عن المجتمع الاستهلاكي يمثّل اليوم مقولة اجتماعية بامتياز في أحوال لبنان. المطالبة باقتصاد له سمات اجتماعية أساسية يمرّ بالضرورة بتبنّي انقلاب الأدوار حتى النهاية: أوليغارشية تدعو الناس إلى تقبّل العيش في مجتمع غير استهلاكي من الآن فصاعداً، ومقاومة شعبية لها تنهض في المقابل ليس فقط دفاعاً عن منظار اقتصاد اجتماعي ومتوازن ومنتج، بل قبل كلّ شيء، دفاعاً عن المجتمع الاستهلاكي، دفاعاً عن ثنائية العمل والتجارة معاً. لأنه، وتحت لافتة الانتقال من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج، تكدّست أوهام غير مجدية، أو غير منتجة، من قبيل تحويل لبنان لمعمل غندور كبير.

الاقتصاد المنتج الاجتماعي هو الاقتصاد الذي يجد لنفسه مكاناً ضمن المنظومة العالمية للإنتاج وتوزيع الإنتاج، ويتحدّد ما الذي يمكنه إنتاجه أو تدوير إنتاجه في هذا الإطار، وليس خارجه. وعليه، يمكن أن يجد مركز تجاري كبير حاجة عضوية له ضمن المنظومة العالمية للإنتاج والتوزيع أكثر بكثير من منظومة صناعية “أوتارسية” مبنية على أوهام الانعزال الذاتي المكتفي بنفسه… وأكثر بكثير من مصنع غير قادر أن يصرّف إنتاجه بربح مقبول. فما هو دور التجارة في لبنان اليوم، فيما النيوليبراليون يسابقون أخصامهم الأيديولوجيين النمطيين، في الدعوة للاستغناء عن الاستهلاك، في وقت يسوّغون هذا الاستغناء بالحاجة لإنقاذ نظام السوق نفسه، في حين يدعو أخصامهم لهذا الاستغناء بشعارات مناهضة لنظام السوق؟ 

ورطة فعلية إذا سلّمنا بأن التجارة ما عاد لها من الآن فصاعداً من أفق في لبنان. واحدة من مشكلات آخر ثلاثين عاماً هو تخلّف التجارة في لبنان، وليس العكس، وتخلّف السياحة فيه، وليس العكس، وتردّي الخدمات، وليس العكس. تطوير الصناعات والحرف والزراعات مسائل جوهرية وأساسية، لكن ذلك يرتبط أيضاً بالقدرة على فهم أنّ التجارة والسياحة والخدمات والمجتمع الاستهلاكي الكبير ليست شروراً ينبغي العمل على اجتنابها أو استئصالها. وهناك من الزراعات ما نحتاجه لتأمين كفاية ذاتية به (القمح أولاً)، وهناك من الصناعات والزراعات ما نحتاجه لتصديره للخارج لتحسين حجم الصادرات، وهناك ما نحتاجه بالداخل لتخفيف حجم الواردات، وهناك دائماً استيراد بداعي إعادة التصدير لا يمكن إخراجه كلياً من الحساب. 

التسليم بأن مجتمع الاستهلاك الكبير في لبنان انتهى، هو في الواقع تسليم بانتهاء البلد. استهلاك أقل = انتاج أقل. القاعدة نفسها تنطبق على السوق. سوق أكثر = تخطيط أكثر، ومرونة أكثر في التخطيط، في الوقت نفسه. وهنا، للبنان ما يتعلّمه من الاقتصاديات الآسيوية، الصين وغير الصين. فقد حان الوقت فعلياً، لـ”أسيوة لبنان”.

 

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…