عمر مسقاوي(2/2): الأزهريُّ الذي لم تلوّثه السلطةُ ولم تغيّره السياسة

مدة القراءة 6 د


عاد عمر مسقاوي من مصر إلى طرابلس حاملاً شهادتيه الأزهرية والحقوقية، ومحمّلاً بأفكار النهضة والتنمية من أستاذه مالك بن نبي، بل مكلّفاً منه بنشر فكره ومؤلفاته. وبهذا الخزين الغني الراجع به إلى مدينته وإلى الوطن، انطلقت رحلة عمر مسقاوي في مناحي الحياة المختلفة. باشر الكتابة في صحيفة “الإنشاء” اليومية العريقة. ثم خاض مع مؤسِّسها المرحوم محمود الأدهمي مساراً جديداً في التعبير حول الوقائع العربية في بداية الستينات، ومنها الوحدةُ والانفصال بين مصر وسوريا، وأحوال الإقطاع السياسي والتجدّد في لبنان، لتستمرّ مقالاته على مدى عشرين عاماً، أهدى سلسلةً منها لصديقه إلياس النحاس “الذي ارتفع عن مزالق الطائفية، ورأى الناس بمنظار المسيح إخوة تجمعهم مراتع الحياة”، ونشرها عام 1965 في كتاب “كلمات في طرابلس” تناولت “مسؤولية المثقفين” تجاه “اللامبالاة الثقافية”، مؤكداً أن “تمثالاً من عِلْمٍ خيرٌ من تمثالٍ من حَجَر” مُقدِّماً “نظرة في التنمية” وفي “معنى المعارضة والموالاة”.

دخل مسقاوي “جمعية مكارم الأخلاق” ثم تولّى رئاستها لتنطلق تجربةٌ رائدةٌ في الدّعوة والتّوجيه والتنمية، ولتـُثمر إنشاء “روضة الفيحاء” الصرح التربوي الذي أسهم في النهوض العلمي بطرابلس والشمال.

إقرأ أيضاً: عمر مسقاوي(1/2): الرائد الآتي من الزمن الجميل

في المؤسّسة الدينية كان مسقاوي عضواً في المجلس الاستشاري لمفتي الجمهورية بين العامين 1964 و1966، ثم انتخب عضواً في “المجلس الشرعي الإسلامي” واستمرّ في عضويته منذ العام 1976، ونائباً لرئيس المجلس منذ العام 2006 رافداً هذه التجربة بكتاب حول “نظام الوقف وأحكامه الشرعية والقانونية”.

يقول مسقاوي عن المجلس بأنّه “مؤسّسة مهمّة، لكنّه واجه عقباتٍ كبيرة حالت دون تمكنّه من استنهاض الواقع الإسلامي، كان آخرها الصدام الذي وقع مع مفتي الجمهورية السابق الشيخ محمد رشيد قبّاني حول الإدارة المالية لمؤسّسات دار الفتوى”. ليخلص بأنّ “المجلس الجديد لا يزال واقفاً على الرصيف ولم يدخل في عمق مهمته الأولى، وهي حماية الوقف ومستقبلِه كقوّةٍ فاعلة في تكوين البنية الاجتماعية التي هي أساس العمل الإسلامي”، راجياً أن “يكون الجُهد المبذول حالياً منطلَقاً للنهوض المنتظر”.

لم يكن العمل السياسي من أولويات عمر مسقاوي بل إنّه جاء نتيجة التراكم الاجتماعي والإعلامي، فكانت النيابةُ عام 1992 حتى العام 1998، ثم الوزارة في حكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري الأولى والثانية والثالثة واحدة من نتائج مسارٍ طويل في العمل العام، محقّقاً أحد أهدافه وهو التغيير في الحياة السياسية في طرابلس والحدّ من هيمنة “الإقطاع السياسي” المتمثـّل بآل كرامي المحتكرين لتمثيل طرابلس في تلك المرحلة.

حول تجربته في حكومات الرئيس الحريري يقول مسقاوي إنّ “شيئاً لم يتغيّر لأنّ الحرب فتّتت قدرة لبنان على إعادة تكوين دوره مجدّداً، فمرحلة الرئيس الحريري غطّت على سطح هذا الركام الناشئ في السبعينات والثمانينات ولم تغيّر أساسه”. ولذا، فإنّ ما يجري اليوم هو “نتيجة عدم إدراك اللحظة التي نشأت كأساسٍ للتغيير مع اتفاق الطائف، لأن هذا السقف السياسيّ سيء جداً وهو يعمل ضدّ الجيل الآتي”.

في وزارة الأشغال العامة والنقل قام مسقاوي بالإصلاح الممكن فاتّخذ خطواتٍ نهضت بمرفأ طرابلس. وقام بعزل أعضاء مجلس إدارة مرفأ بيروت الرافضين حينها لأيّ خطوةٍ إصلاحية  فاتحاً المجال لعملية تطويرٍ لا تزال بصماتـُها ماثلة في أقسام مرفأي العاصمتين الأولى والثانية.

وأَولى مسقاوي العناية للصيادين، فأنشأ 19 مرفأً للصيد امتدّت من عكار إلى صيدا، للمساهمة في تحقيق الاستقرار لهذه الشريحة المحرومة من الحقوق، وكانت تلك الخطوة غير المسبوقة ذات تأثير إيجابي في تنظيم قطاع الصّيد البحري.

المشكلة الحقيقية هي أنّ لبنان يعيش في ماضي طوائفه أكثر من حضوره في إطارنا الإقليمي لأننا ننظر إلى دور الدولة والتراث كعنصرٍ محايد في بنيَتِنا الوطنية

جمع مسقاوي خلاصة تجربته في الوزارة في كتابٍ حمل عنوان “بُنية المجتمع ومسار الدولة في لبنان”. وقام بجولةٍ على الرؤساء والوزراء والنوّاب ورؤساء الطوائف ليقدّم لهم الكتاب الذي يعلن أنّ “الواقع السياسي الذي يسيطر على مرافق الدولة يبدو نتيجةً للحرب وليس طيّاً لصفحتها”، كما أنّ “التنمية ليست كمّاً من المشاريع، بل هي إرادةٌ وطنية تتلبـّسُها تلك المشاريع وإلاّ تصبح مشاريعُنا نهبَ المفاجآت إذا ما دهمتنا صيحاتٌ جديدةٌ من الخارج، تُبدِّدُ الجَمْعَ بعصا النّزاعات الطائفية كما جرى في أعوام الحرب فهدّمت البُنيةَ والبناءَ والروحَ الوطنيةَ الجامعة”.

يقارب مسقاوي إشكالات النظام السياسي بعمقها. وبدون مسايرات يوضح رأيه بالعلمنة موضحاً أنّ “أزمة لبنان في الطائفية السياسية ليست كأزمة أوروبا في سيطرة الكنيسة والمَلَكية ذات الحقّ الإلهي”. كما يعتبر أنّ “الذين يطرحون مفهوم الزواج المدني وسيلةً للانصهار الوطني إنّما يخدعون أنفسهم. فالانصهارُ الوطني فعلُ إرادةٍ ورؤيةٌ سَلَفـَتْ يدُ التاريخ في تأسيسها، لكن ما يبدِّدُ نسَقها هو الإنبهار في النظر إلى العولمة الغربية كلّما أرادت المجتمعاتُ المتخلّفة أن تبني مستقبلها”.

يختم مسقاوي رؤيته بالقول إنّ “المشكلة الحقيقية هي أنّ لبنان يعيش في ماضي طوائفه أكثر من حضوره في إطارنا الإقليمي لأننا ننظر إلى دور الدولة والتراث كعنصرٍ محايد في بنيَتِنا الوطنية. وهذا يدلّ على أنّ إدراكنا لمفهوم الديمقراطية في إطار بنية الدولة، لا يزال قاصراً عن دوره في تفعيل معطيات تاريخنا التراثيّ وفي بناء شخصيتنا المحصّنة بإرادة الاستمرار، وبناء المستقبل الذي ينتظره أبناؤنا في المسار الوطني الجامع”.

يواصل عمر مسقاوي حياته في مدينته طرابلس وقد خرج من تجربة السلطة نقيّ الكفّ لم يتلوّث بفسادها، من دون أن يتقاعد عن القيام بواجباته تجاهها، فلم تـُتـْعـِبه السنون ولم يُداخِلْه اليأسُ من سوء الأحوال، محتفظاً بابتسامته المتفائلة بغدٍ أفضل لأبناء الفيحاء وللبنان الرسالة والوطن.

 

*عمر مسقاوي في صورة تعود للعام 1951 في الكلية الشرعية في بيروت (الأوّل من اليسار)، مع ناظر المدرسة، وطلاب من طرابلس: علاء الدين شيخ العرب، واثق الشوربجي، خالد الرافعي، وأمين أديب.

 *يظهر في الصورة المفتي الشهيد حسن خالد مع عدد من طلابه في الكلية ويبدو عمر مسقاوي (الأوّل إلى اليمين وقوفاً فوق).

مواضيع ذات صلة

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…

الميدان يَنسِف المفاوضات؟

لا شيء في الميدان على المقلبين الإسرائيلي واللبناني يوحي بأنّ اتّفاق وقف إطلاق النار يسلك طريقه إلى التنفيذ. اليوم ومن خارج “دوام عمل” العدوّ الإسرائيلي…