ليس التاريخ الحديث لسوريا، منذ استقلت في العام 1946 سوى سلسلة من الصراعات توّجت بالصراع الضيّق، بكلّ المقاييس والأبعاد، القائم حالياً بين بشّار الأسد زوجته أسماء وشقيقه ماهر من جهة وآل مخلوف ممثّلين برامي محمّد مخلوف من جهة أخرى. من قضية سورية ذات ابعاد دولية وإقليمية إلى مشكلة عائلية خلفيتها مصير بلد بكامله.
إنّه صراع بين عائلتين في عائلة واحدة لم يعد فيها مكان لآل مخلوف الذين شكّلوا طوال سنوات الذراع المالية للسلطة التي تشكّلت في 16 تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1970 عندما احتكر حافظ الأسد الحكم وصار في شباط – فبراير 1971 أولّ علوي يتولّى الرئاسة في الجمهورية العربية السورية.
من صراع على بلد ودوره في المنطقة… إلى صراع ذي طابع مالي وتجاري ببعد عائلي محوره شركات تجارية. هل هذه نهاية سوريا التي عرفناها
إقرأ أيضاً: هل النظام السوري مجنون؟
نشهد نهاية مأساوية لبلد كان مرشّحا لان يكون أحد اكثر البلدان ازدهاراً في الشرق الأوسط، فإذا به في السنة 2020 تحت خمسة احتلالات. هناك الاحتلالان التركي والإسرائيلي المرشّحان لان يكونا دائمين، فيما كلّ الأسئلة مطروحة في شأن مستقبل إيران وحليفها الصيني في سوريا ومتى تبدأ مرحلة انتقالية استناداً إلى القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن تنفيذا لتفاهم أميركي – روسي بدأت ملامحه تتبلور قبل فترة ليست بالقصيرة.
انتهى تاريخ سوريا، المستقلة منذ 74 عاماً، بصراع عائلي ضيّق هدفه تجميع كلّ السلطات وكلّ الثروات بيد آل الأسد، خصوصاً أن النجل الأكبر لبشّار الأسد (حافظ) كبر وهو في طريقه إلى تولي موقع ما في تركيبة السلطة.
لا يمكن اعتبار التاريخ الحديث لسوريا سلسلة من الصراعات فحسب، بل إنّه أيضاً تاريخ عجيب غريب لبلد عربي مستقلّ وقع فيه أوّل انقلاب عسكري ناجح في العام 1949 عندما أزاح حسني الزعيم الرئيس المنتخب شكري القوتلي.
ما لبث شكري القوتلي نفسه أن أقدم، بإرادته الحرّة أو بغير إرادته، على عمل أحمق هو الوحدة المصرية – السورية في العام 1958. استمرّت هذه الوحدة التي لا أساس علمياً او منطقياً لها ثلاث سنوات، فكان عهد الانفصال الذي أعاد بعض الأمل إلى سوريا التي بدأ شعبها يتعوّد في عهد الوحدة على حكم الأجهزة الأمنية وتكميم الأفواه والتأميمات بكلّ ما يرمز إليه ضابط آخر متوحّش اسمه عبد الحميد السرّاج.
في الثامن من آذار – مارس 1963 وقع الانقلاب البعثي الذي عادت معه الأجهزة الأمنية إلى الواجهة. في 23 شباط 1966 انقلب الضباط العلويون البعثيون على البعث نفسه. يومذاك وُضع حجر الأساس لتولّي ضابط علوي الحكم في سوريا التي ما لبثت أن تحوّلت الى ملعب لحافظ الأسد وحده. على هامش صعود حافظ الأسد، لا يمكن تجاهل سقوط الجولان في قبضة الاحتلال الإسرائيلي إبان تولّيه وزارة الدفاع في العام 1967.
في ستينات القرن الماضي، وضع الصحافي البريطاني باتريك سيل كتاباً بعنوان “الصراع على سوريا”. وفي النصف الثاني من السبعينات، صدر كتاب الديبلوماسي الهولندي نيكولاس فان دام بعنوان “الصراع على السلطة في سوريا”. يشرح هذا الكتاب بالتفاصيل التحوّلات التي شهدها الجيش السوري من استبعاد للضباط السنّة أبناء المدن الكبرى… إلى إنهاء دور الضباط الدروز والإسماعيليين، وصولاً إلى السيطرة العلوية على الجيش بطريقة ممنهجة.
بغض النظر عمّا إذا كان تحالف بشّار – أسماء – ماهر سيتمكّن من التخلّص من رامي وانتزاع شركاته منه، يظلّ أن ما يجري في دمشق أقرب إلى مهزلة
في عهد حافظ الأسد الذي استمر ثلاثين عاماً، كان هناك دور كبير لسوريا على الصعيد الإقليمي، خصوصاً بعد دخولها إلى لبنان وسعيها إلى الإمساك بالورقة الفلسطينية والحلف مع إيران الذي ظهر بوضوح من خلال وقوفها ضد العراق في حرب السنوات الثماني. ترافق ذلك مع نوع من المحافظة على المظاهر وذلك عبر وضع سنّة من الريف، مثل مصطفى طلاس وعبد الحليم خدّام وحكمت الشهابي وغيرهم، في الواجهة. أمّا السلطة الحقيقية والفعلية، فكانت في يد الضباط العلويين من رؤساء الأجهزة مع هيمنة غير ظاهرة لمحمّد مخلوف (شقيق زوجة حافظ الأسد) على بعض من الجانب الاقتصادي. لم يَحلْ ذلك دون بروز ظاهرة رفعت الأسد التي قمعت بالطريق المناسبة، خصوصاً مع بدء التهيئة لتوريث باسل الأسد الذي قتل في حادث سير مطلع العام 1994.
كانت خلافة بشّار الأسد لوالده بداية تحوّل على صعيد انتقال الحكم من الطائفة إلى حكم العائلة الواحدة في ظلّ توسّع للدور الإيراني. وصف احد الزعماء العرب سوريا في عهد بشّار الأسد وفي ظلّ والدته أنيسة وخاله محمّد (أبو رامي) بأنّها تحوّلت إلى ما يشبه شركة مساهمة عائلية يديرها مجلس إدارة. ما يحدث الآن هو انفراط الشركة في ظلّ غياب الأم (انيسة) ومرض الخال (محمد مخلوف) والتخلّص قبل ذلك، في 2012، من آصف شوكت الذي كان دخيلاً على العائلة على الرغم من زواجه من بشرى الأسد، الشقيقة الكبرى لبشّار. هل يعود ذلك إلى إعداد الابن البكر لبشّار برعاية والدته للمرحلة المقبلة، وهو تفكير أقرب إلى ما يشبه الرهان على وهم؟
بغض النظر عمّا إذا كان تحالف بشّار – أسماء – ماهر سيتمكّن من التخلّص من رامي وانتزاع شركاته منه، يظلّ أن ما يجري في دمشق أقرب إلى مهزلة. الحدث الكبير صار خارج دمشق في وقت ليس معروفاً مدى الدعم الروسي الروسي لآل مخلوف من جهة، وما الذي ستفعله إيران من جهة أخرى. يحدث ذلك كلّه في وقت صار الوجود التركي في شمال سوريا أقرب الى الوجود التركي في شمال قبرص، القائم منذ العام 1974. لم تعد سوريا لاعباً إقليمياً بمقدار ما أن المطروح العودة إلى عنواني كتابي باتريك سيل ونيكولاس فان دام، أي إلى “الصراع على سوريا” و”الصراع على السلطة في سوريا”. العنوان الاوّل يضع الأزمة السورية الدائمة في إطارها الإقليمي… والثاني يضع أزمة سوريا في الإطار الداخلي، أي في إطار طائفي ومذهبي صار الآن عائلياً في المفهوم الضيّق، بل الأضيق، للكلمة …