عمر مسقاوي(1/2): الرائد الآتي من الزمن الجميل

2020-05-06

عمر مسقاوي(1/2): الرائد الآتي من الزمن الجميل


من الصعوبة بمكان النجاحُ في تقديمِ قراءةٍ لشخصيّةٍ عاصرت مراحل تاريخية مفصليّة وكان لها دورها المؤثـّر والبنّاء يقع الباحث في حيرة اختيار المراحل، وكلّها تدعوك للكتابة والملاحظة والتأمّل، ثمّ تقفُ عاجزاً أمام ضرورة الاختصار وكلّ ما في سيرة عمر كامل مسقاوي يدعوك للتوسّع والإفاضة في تقديم هذه السيرة الجميلة الآتية من الزمن الجميل، وقد آل حالُنا إلى ما نحن فيه من تردٍّ إنساني ومعنوي في السياسة والاجتماع والمعاش. ففي سيرته فيها رجوعٌ إلى القواعد التي جعلت مجتمعنا متماسكاً يحمل قيم الانتماء والتكافل والتديّن والعيش مع الشركاء في الوطن بتلقائية وصدقٍ وتفاعل.

هذه الشخصية التي عاشت حُلم التغيير بنُبلٍ وهدوء، وبإصرارٍ بعيد عن الاضطراب والصدام الذي يواكب عادةً شغف الشباب واندفاعته.. هو واحد من أبناء الجيل الذهبي الذي لا يزال يعيش بيننا ونحن نعبر المراحل، بينما تشعر أن عمر مسقاوي يتوقف عند زوايا الزمن فيقلّبُها ويعيد قراءتها، ويعود إلى الواقع ليقدّم ما جناه من حكمة السنين. ولد في 15 كانون الثاني 1935 بطرابلس، ودرس سنواته الأولى في مدرسة النموذج حين كان مديرُها التربويّ المعروف الأستاذ حسن الحجة، وكان ناظرُها الشيخ نصّوح البارودي جَـدُّ شيخ القراء الشيخ بلال بارودي. وكان من المعلّمين المؤثّرين الحاج سميح مولوي ومواهب أسطة، الذين كان لهما دور كبير في تاريخ المدينة الثقافي والديني والاجتماعي، وفي تكوين ملامح شخصية عمر مسقاوي لاحقاً، لأنّ المدارس والثانويات كانت حضناً لتخريج جيلٍ كتب لاحقاً تاريخ طرابلس.

إقرأ أيضاً: محمد خالد (2): الرجل الوحيد الذي رفض رئاسة الحكومة

لا ينفصل تاريخ عمر مسقاوي عن تاريخ مدينته. ففي مقاربته لسيرته الذاتية يقدّم “رسالة إلى الجيل” في كتاب يحمل تفاصيل الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية لطرابلس، حين كان لمسجدها المنصوريّ الكبير موقعُ الصدارة، فهو كان “برلمان” المدينة وإليه تأوي رجالات الفيحاء، وترفده الأسواق العريقة وخاصة سوق العطّارين، ومنه تنطلق التحرّكات والاحتجاجات المناهضة للاستعمار الفرنسي، وكان معظم المنخرطين فيها من طلاب كلية التربية والتعليم الإسلامية.

يُحدّثك عمر مسقاوي وكأنه لم يغادر منزله العائليّ في جوار المسجد الكبير، حيث تعرّف إلى قيادات المدينة وقتذاك، ومنهم الأستاذ فؤاد الولي العضو المؤسّس في “جمعية مكارم الأخلاق”، والذي كان على اتصال بالعالم الخارجي في تلك المرحلة ومواكباً لتداعيات قيام الكيان الإسرائيلي، فكان للقضية الفلسطينية موقع الصدارة لدى ذلك الجيل.

كما واكب مسقاوي، في تلك المحطة الرمضانية، الشيخَ أنور بكري الذي كان مكلّفاً من “جمعية مكارم الأخلاق” بإلقاء المواعظ في المسجد المنصوري، بالتزامن مع تنظيم الجميعة الاحتفالات الدينية بطابعها الاجتماعي، وتحديداً الليالي الرمضانية العابقة بالعبادة والتواصل، ما خلق جواً عاماً من التديّن والالتزام سلكه مسقاوي فاتجه إلى الكلية الشرعية في بيروت لينال شهادة الثانوية الشرعية، ولينطلق إلى الأزهر الشريف في مصر في العام 1956 تاريخ وقوع العدوان الثلاثي على مصر، وليحصّل بعدها شهادتي الثانوية العامة والحقوق.

يستذكر مسقاوي ذلك الحدث، فيقول إنّ “الجامعات أغلقت أبوابها ستة أشهر وبقينا في البيوت، كما هو حالُنا اليوم في ظلّ وباء كورونا”، ويضيف إنّ تلك المرحلة شهدت التعارف بين الطلاب الآتين من المغرب وليبيا وسوريا، ومن بينهم طالب مغربي فتح باب التواصل مع المفكّر الجزائري مالك بن نبي. لاحقاً سيلتصق اسم عمر مسقاوي باسمه في تجربةٍ فكريّة أثـْراها وجودُ قيادات الثورة على الاستعمار الفرنسي، أبرزهم الأمير عبد الكريم الخطّابي الذي وجد فيه الطلاّبُ العرب “محطّة أمان، وفي مالك بن نبي أفق إدراكٍ لغدٍ واعد”.

منذ العام 1956 لازَمَ مسقاوي بن نبي الذي عَهِدَ إليه الوصايةَ على تراثه المكتوب باللغة العربية فأثمرت هذه الصُّحبة تجربة فكرية

يقول مسقاوي عن تلك المرحلة لـ”أساس”: “كان بن نبي يعرض علينا التطوّرات الثقافية وعمقها الغربي في ظلّ الاستعمار الفرنسي.. فتلاقت ذكريات بن نبي في مجلس الأمير الخطابي خلال لقاءاتنا الأسبوعية معه، وكانت أصداءُ ثورة الريف (المغربي) تخاطب المشاعر الجزائرية، فيحدّثنا بن نبي عن منشورٍ كتبه بخطّ يده بالعربية يؤيِّد ثورة الريف، متحدّياً الإدارة الفرنسية، ثمّ وزّعه على أبواب مساجد تبسة.. ثمّ يتابع الأمير الخطابي تفصيل دقائق معركة (أنوال) التاريخية التي انتصر فيها المجاهدون على الجيش الأسباني عام 1921”.

أسهمت صُحبةُ مسقاوي لبن نبي في تبادل فكرٍ نهضوي متقدّم، حمل منهجية تغييرٍ عالجت إشكالية القابلية للاستعمار، وطَرَحَ فكرة “إقامة كومنولث إسلامي” كخطةٍ عملية كانت “الأولى في التاريخ الإسلامي تخرج من التعميمات والذاكرة التاريخية إلى نطاق المعاصرة، ليخلع العالم الإسلامي لباس السلبية للدخول في بناءٍ جديد” وصولاً إلى “تحديد المعالم الأساسية لفكرة الترابط الفاعل بين أجزاء العالم الإسلامي”، وهي إشكاليةٌ لا تزال تطرح نفسها منذ سقوط الخلافة العثمانية حتى اليوم.

منذ العام 1956 لازَمَ مسقاوي بن نبي الذي عَهِدَ إليه الوصايةَ على تراثه المكتوب باللغة العربية فأثمرت هذه الصُّحبة تجربة فكرية أنتجت أول كتابٍ بإشرافه الشخصيّ باللّغة العربية حمل عنوان “شروط النهضة” بالتعاون مع زميل الدراسة الليبي عبد السلام الهرّاس وعبد الصّبور شاهين الذي أشرف على الترجمة وأصبح من الفريق الذي أدخل فكر بن نبي إلى القارئ العربي، ليضيف إليها عمر مسقاوي سلسلة كتب قدّمت “نظرات في الفكر الإسلامي ومالك بن نبي” و”العالمية ورسالة الحضارة والثقافة في فكر بن نبي” و”في صحبة مالك بن نبي”.

 

مواضيع ذات صلة

لبنان بالخيار: حرب مفتوحة أم فصل المسارات؟

هو أشبه بفيلم رعب عاشه اللبنانيون منذ يوم الثلاثاء الفائت. في الوقت الذي بدأ الحزب بتحقيقاته الداخلية للوقوف على أسباب الخرق ومن يقف خلفه، تستعدّ…

ماذا أرادَ نتنياهو من عمليّة “البيجر”؟

دخلَت المواجهة المُستمرّة بين الحزب وإسرائيل منعطفاً هو الأخطر في تاريخ المواجهات بين الجانبَيْن بعد ما عُرِفَ بـ”مجزرة البيجر”. فقد جاءَت العمليّة الأمنيّة التي تخطّى…

ما بعد 17 أيلول: المدنيّون في مرمى الحزب؟

دقائق قليلة من التفجيرات المتزامنة في مناطق الضاحية والجنوب والبقاع على مدى يومين شكّلت منعطفاً أساسياً ليس فقط في مسار حرب إسناد غزة بل في تاريخ الصراع…

ألغام تُزَنّر الحكومة: التّمديد في المجلس أم السراي؟

ثلاثة ألغام تُزنّر الحكومة و”تدفشها” أكثر باتّجاه فتح جبهات مع الناقمين على أدائها وسط ورشتها المفتوحة لإقرار الموازنة: 1- ملفّ تعليم السوريين المقيمين بشكل غير…