يستغرب العلماء تفاوت قوّة وباء فيروس كورونا بين قارّة وأخرى، بل بين منطقة وأخرى داخل البلد الواحد. ففي مكان يقتل الفيروس أضعاف ما يقتل في مكان آخر، على الرغم من تقارب إجمالي الإصابات في المكانين، وتشابه الظروف والعوامل. فهل نحن أمام كورونا واحد أم أكثر من كورونا؟ هل يتوالد الكورونا فيتطوّر فيصبح أكثر خطراً، كلما تناسخ وتناسل؟ من الضروري أن يحسم العلم هذه المسألة الدقيقة، لسبب حيوي، وهو أنه حين ينكبّ العلماء في كلّ مكان على إيجاد علاج فعّال ولقاح آمن، فلأيّ نسخة من كورونا هم يتجهّزون؟ أخوف ما يخافونه أن يسبقهم الفيروس بأشواط، فعندما يجدون علاجاً لنسخة منه، يكون قد طوّر نسخة أكثر شدّة وحدّة!
حتّى الآن هناك دراسات تتناول هذه الجزئية الحسّاسة لكن لم تتجاوز بعد عتبة المصادقة عليها علمياً، كما تكشف صحيفة “يو أس إيه توداي – Usa today” في تقرير مثير للقلق. فالكورونا يتحوّل بقدر ما ينتشر في أرجاء الكوكب. ويمكن لسلالة ما من سلالاته أن تكون ظهرت أولاً في أوروبا، ثم أصبحت مهيمنة في كثير من المناطق، ثم تظهر منه سلالات جديدة. والسؤال الذي يبقى دون جواب هو: كيف تختلف سلالات الكورونا بعضها عن بعض؟ وهل هذا الاختلاف يتسبّب بمزيد من شدّة الوباء؟
إقرأ أيضاً: أميركا وكورونا: أعمق انكماش اقتصادي منذ 100 عام ووفيّات بحجم حرب فيتنام
لقد حدّدت عدة دراسات تحويرات طرأت على فيروس (2-SARS-CoV) وهو الاسم الأكاديمي للكورونا المستجدّ، وهو سبب الوباء المعروف الآن باسم كوفيد19. هذه السلالات شديدة الشبه بعضها ببعض، لكن طرأت تغييرات بسيطة داخل تكوين الفيروس نفسه. ويقول آلان وو (Alan Wu) البروفسور في المختبر التابع للمعهد الطبي بجامعة سان فرانسيسكو، وهو أيضاً رئيس المختبر العيادي الكيميائي في مستشفى سان فرانسيسكو العام بزوكيربرغ، إنّ “هذا قد يفسّر ما نشهده من اختلاف في نتائج الوباء بين سان فرانسيسكو ومدينة نيويورك”. “كلهم يتحدّثون عن الفيروس وكأنه شيء واحد. بل يمكن أن يكون أكثر من مشكلة”، يقول الدكتور غريغ بولاند (Greg Poland) مدير مجموعة البحث عن لقاح في عيادة مايو.
كلّ الفيروسات تتحوّل، لا سيما التي تنطوي على الحمض النووي الريبوزي (RNA) مثل الكورونا المستجدّ. وما هو مهمّ بحسب بولاند، إن كان لظهور التحويرات في الفيروس أثر عيادي.
ثمة دراسة نشرها موقع المختبر الوطني في لوس آلامو في 30 نيسان الماضي، تقول إنها عثرت على 14 تحويراً للفيروس المنتشر في العالم. وحذّرت الدراسة من أن بعض هذه السلالات تحمل مواصفات يمكن أن تجعلها مُعدية أكثر. ووجدت ورقة بحثية أخرى، تحويرات عدة طرأت على الفيروس.
يتحفّظ الدكتور وو، ويقول إنه من المبكّر استخلاص نتائج صلبة وسريعة قبل الحصول على معطيات وافية للبناء عليها. فالأمر برأيه أكثر تعقيداً مما تقترحه كلتا الدراستين المشار إليهما، فـ”كثير من المختبرات تعكف على بحث هذه المسألة، لكنها لم تنشر نتائج أبحاثها بعد”.
إلا أنّ النتائج الأوّلية لبرنامج فحص الكورونا في حيّ سكني صغير في سان فرانسيسكو، وقد نُشرت الاثنين الماضي (4 أيار)، كشفت أن 2.1% من السكان مصابون بالكورونا، وأكثر من نصفهم لا تظهر عليهم أعراض المرض. المستشفى الذي يعمل فيه الدكتور وو، والذي يشهد نسبة عالية من المرضى الفقراء والمحرومين من الخدمات، سجّل حالتي وفاة بوباء كوفيد19. أما مدينة نيويورك، فشهدت وفاة أكثر من 13.700 شخص وفق إحصاءات قسم الصحّة في المدينة.
وعلى الرغم من أن إجمالي سكان نيويورك هو أكبر بكثير من سكان سان فرانسيسكو (8 ملايين مقابل 880 ألفاً)، لكن الاختلاف صادم في نتائج المدينتين. “فكيف حدث هذا؟ ليست قضية كثافة سكانية، إذ إنّ مدينة سان فرانسيسكو هي ثاني مدينة من حيث الكثافة السكانية بعد نيويورك، في الولايات المتحدة” كما يقول وو.
في نيويورك، يموت 80 إلى 90% من المرضى الخاضعين للتنفّس الاصطناعي. وعن هذا، يقول الدكتور وو: “أودّ القول إننا قمنا بعمل أفضل، لكنّ اختلاف العدوى، ونسب النجاة من المرض، ما بين نيويورك وسان فرانسيسكو، هو كما الاختلاف بين الليل والنهار”.
المختبرات منشغلة فيما إذا كانت التحويرات التي يتعرّض لها الفيروس مسؤولة جزئياً عن الإصابات المتوسطة في أماكن، والإصابات القاتلة جداً في أماكن أخرى.
ثمة دليل على أن سلالات مختلفة من الفيروس تنتشر الآن. ووجد بحث قام به معهد أيكاهن (Icahn) للطب في مونت سيناي (Mount Sinai) بمدينة نيويورك، أنّ متغيّراً من الفيروس الذي وصل إلى نيويورك أتى من أوروبا، وهو تحوير للفيروس الذي ظهر ابتداء في الصين. وإن السلالة التي ظهرت في الساحل الغربي للولايات المتحدة، أي في سياتيل وسان فرانسيسكو، هو أكثر صلة بالمتغيّر الآتي من مدينة ووهان الصينية. وكي تصير المسألة أكثر تعقيداً، وجد الباحثون في جامعة كامبردج بإنكلترا ثلاثة متغيّرات مختلفة من الكورونا المستجدّ. وأطلقوا على الذي ظهر أولاً نموذج “أ”، وعلى الثاني نموذج “ب”، وهو المشتقّ من الأوّل، وهو الذي أصبح الشكل الغالب في الصين. وهذا تحوّر في نماذج عدة، ومنها النموذج ج، وهو السلالة الغالبة في أوروبا.
وأفادت دراسات عدة عن تحويرات متعدّدة للفيروس، على الرغم من أنّه من غير المعلوم إن كانت هذه السلالات أكثر مُعدية، أو قاتلة أكثر. وإن تقصّي السلالات المتنوّعة هو أمر صعب، لأن دراسات كثيرة تسمّي متغيّرات الفيروس بأسماء مختلفة.
ثمة تقرير آخر صادر عن باحثين في الصين، وفيه أن سلالتين على الأقلّ كانتا الأكثر ظهوراً، وواحدة منهما أكثر انتشاراً من الأخرى، ومعنى ذلك أنّها أكثر قدرة على التكيّف
من جهة أخرى، حدّدت المجموعة البحثية في مختبر لوس آلامو الوطني 14 سلالة مخنلفة للفيروس، وواحدة منها في الأقلّ تنقل العدوى بطريقة أيسر من الفيروس الأصلي، كما يبدو. والتحوير المسمّى (D614G) الذي رصده العلماء ظهر أوّلاً في أوروبا مطلع آذار الماضي، وفي مطلع نيسان، كانت وتيرة تحرّكه في ازدياد. وعندما ظهر في منطقة جديدة، في كثير من الحالات، أصبح هو الشكل الغالب في أسابيع قليلة فقط، بحسب ما اكتشف الباحثون.
كلٌّ من الفيروس الأصلي والسلالة المشتقة منه، انتشرا في المدينة الإنكليزية شيفيلد (Sheffield)، ووجد الفحص الموسّع هناك أنّ الفيروس المحوّر الذي أصاب الأفراد لم يؤدّ إلى رفع احتمالات خضوع المصابين للاستشفاء، لكن بالمقابل تبيّن أنّ المرضى تحمّلوا كميات أكبر من الفيروسات، وهذا يترافق نمطياً مع عواقب أسوأ للمريض.
ما يُقلق هو إن كان الفيروس يتحوّر بعيداً عن النسخ المتجوّلة، فمن الممكن أن يؤثّر ذلك في إنتاج اللقاح. في الأساس، يمكن اللقاح أن يُحدث جسماً مضاداً هو غير الفيروس المنتشر. وعلى هذا، يقول الدكتور بولاند: “في الخريف المقبل، قد يمنحك اللقاح مناعة وقد لا يفعل ذلك”.
ثمة تقرير آخر صادر عن باحثين في الصين، وفيه أن سلالتين على الأقلّ كانتا الأكثر ظهوراً، وواحدة منهما أكثر انتشاراً من الأخرى، ومعنى ذلك أنّها أكثر قدرة على التكيّف.
المختبرات تحلّل الاختلافات الوراثية بين السلالات المختلفة التي تنتشر في العالم، للنظر فيما إذا كان ممكناً تفسير درجات المرض والوفاة جزئياً بهذه الاختلافات في الفيروس نفسه. “الأجوبة ستأتي قريباً” كما يقول الدكتور وو. لكن لم يتسنّ لهم الوقت بعد لنشر النتائج”.
لقراءة المقال الأصلي اضغط هنا