لم ينجح السنّة في استقطاب الظروف لموالاتهم. غالباً ما تعاكسهم. إما تحشرهم أو يحشرون أنفسهم بين نارين، كما هو الحال بخصوص اجتماع بعبدا الحواري يوم الخميس المقبل. منذ اليوم الأوّل لتسريب الخبر، كان رفض المشاركة سِمتهم. من حيث المبدأ والشكل، فإنّ الموقف جيدٌ، لجهة رفض تعويم عهد ميشال عون الغارق بالثأر والاستئثار، والعامل دوماً على تطويقهم، وتتويج مساعي التطويق بالانقضاض على ما تبقّى من فعالية لديهم في مؤسسات الدولة وإداراتها، وباستغلال رئيس حكومة مطواع لا يتوانى عن القول والتعليق على أيّ استحقاق عندما يسأل فيجيب: “هيك بدو جبران”.
رفض المشاركة له أسبابه الموجبة حتماً، وله غايتها بنزع الميثاقية السنيّة عن الاجتماع، وعن الرئيس وعزله كما حصل أيّام إميل لحود. لكن عوامل العزل غير متوفرة طالما أنّ حلفاء أساسيين قرّروا المشاركة.
إقرأ أيضاً: حوار بعبدا : الحريري ضرورة … الباقي تكملة عدد
كان رئيس الجمهورية ينتظر أجواء رؤساء الحكومة السابقين لاتخاذ قراره بالمضي في الاجتماع أو تأجيله في حال عدم توافر “الميثاقية”. هنا الظروف ستعاكس رؤساء الحكومة، فلو قرّر عون تأجيل اللقاء، سيكون منطق نزع الميثاقية قد نجح على اجتماع بعبدا، لكنّه لم ينجح في الحكومة، ما سيثبت المزيد من الضعف والوهن السنّي. وفي حال قرّر عون المضي في عقد الاجتماع، فلن يكون السنّة في موقف يُحسدون عليه. يقاطعون ولا تلغى الإجتماعات، ما يضيف على الضعف ضعفاً متراكماً منذ سنوات ولم يتوقّف عند حدود الاعتداء عليهم من خلال التشكيلة الحكومية وتركيبتها إنّما بالمعادلات السياسية الأكبر.
لم يسلم أي من رؤساء الحكومات من اتهامات ميشال عون وفريقه، ولا من اتهامات حزب الله
ليس رؤساء الحكومة السابقون وحدهم في موقف لا يُحسدون عليه. كلّ السنّة في هذه المنزلة، ما لم يثبتوا أنّهم قادرون على الخروج من قهرهم وانتظار ما سيأتي من الخارج والنهوض بمشروع جديد. مشروع لا يمكن أن يبقى داخل المقرّات وصالونات البيوت السياسية، بل يجب أن يخرج إلى رحاب الشعبية الواسعة كثقل فاعل ووازن ومغيّر في الكثير من الموازين. ذلك لا يعني دعوة الناس للنزول إلى الشارع في هذه المرحلة، لكن مع البقاء على تماسّ كامل مع الجماهير، بتحفيز وعيها وثقافتها السياسية، وتحضيرها للحظة مناسبة تكون فيها قد استنهضت كلّ هممها، فتُحدث التغيير.
لا يُحسد السُنّة على كلا الموقفين. الأسوأ هو استمرار الاجتماع بغيابهم فيما يحضر الآخرون، فيكرّسون خروجهم من المعادلة الوطنية، فيما كان يفترض بهم تغيير قواعد اللعبة، وتشكيل لوبي ضاغط مع قوى أخرى يمكن التفاهم معها على المقاطعة مثلاً، فيصبح عون في حالة عزل كلّي ستكون لها أصداؤها الداخلية والعربية والدولية التي لن يكون بإمكان أحد تجاوزها فيما بعد. لكن بما أنّ هذا التنسيق قد غاب، وهناك اتجاه لدى معظم الأفرقاء إلى الحضور، فإنّ ذلك سيسهم بإضعاف السُنّة أكثر وأكثر. وربما لنا أن نتخيّل نشوة حسان دياب وميشال عون المكتومة، فرحاً بإعلان متجدّد لانعدام الوزن السنّي في المعادلة. الوزن الذي يفترض أن يكون رافعة ثقيلة لأي عهد، أو معارضة أثقل له ولأيّ حكومة خارج منطق التوازن.
حاول الرؤساء الأربعة السابقون، ضمن لعبة البيوتات وخلف الجدران، التواصل مع الرئيسين أمين الجميل وميشال سليمان لتحفيزهما على المقاطعة، وصدور بيان باسم الرؤساء الستة بدلاً من الأربعة، لمقاطعة الاجتماع. لكنّ ذلك أيضاً لا يبدو ذات فعالية سوى شكلياً.
لم يسلم أيٌّ من رؤساء الحكومات من اتهامات ميشال عون وفريقه، ولا من اتهامات حزب الله. وهذا يفترض ألّا يدفعهم إلى الانكفاء، بل إلى أخذ المبادرة وشنّ الهجوم في عقر الدار. والردّ تفصيلياً على طاولة الاجتماع داخل القصر الجمهوري وعلنياً من على منبره، حول كلّ الاتهامات التي وُجّهت إليهم وحمّلتهم مسؤولية التدهور والانهيار منذ ثلاثين سنة. وعند الحاجة تمّ الاستنجاد بهم واللجوء إليهم خوفاً من مستقبل قاتم ومن غرق في المزيد من المستنقعات التي أغرق العهد نفسه بها. وبإمكانهم الاجتماع على كلمة واحدة، من السلاح إلى المعابر غير الشرعية، المرفأ والمطار، التهريب، الكهرباء، وملفات كثيرة بإمكانها أن تصيب العهد بمقتل، وتضعه في حالة إحراج مزمن مع المجتمع الدولي ومع حلفائه في الداخل بالوقت ذاته.
بانعقاد اجتماع بعبدا أو بتأجيله، لا شيء سيوقف عجلة الانهيار الذي ولجه لبنان
سمح السنّة برمي الكرة في ملعبهم. قوى كثيرة انتظرت موقفهم وموقف رئاسة الجمهورية من استمرار اللقاء أم تأجيله. بينما كان يفترض بهم أن يكونوا هم أصحاب المبادرة وانتظار ردّة الفعل من الآخرين. وأسوأ أحوال معاكسة الظروف للسنّة أنّه في وقت كان يُنتظر جوابهم بشأن المشاركة في جلسة الحوار، وسعي الآخرين لتحميلهم مسؤولية التعطيل والعرقلة ورفض البحث عن حلول، كان التعطيل الاستراتيجي ياتي من أماكن أخرى، لن ينجح السنّة مجدداً بالإضاءة عليها، سواء من مواقف جبران باسيل المستمرة بالاستفزاز، الباحثة عن صكوك غفران أميركية بالسعي مع عمّه لسحب ورقة التفاوض على ترسيم الحدود من نبيه بري، أو من خلال نشاط حزب الله المتزايد شرقاً وجنوباً بعد نشره أحد الفيديوهات الذي أعلن امتلاكه صواريخ دقيقة وحدّد أهدافاً إسرائيلية لضربها.
في هذه المعادلات يغيب السنة كلياً.
بانعقاد اجتماع بعبدا أو بتأجيله، لا شيء سيوقف عجلة الانهيار الذي ولجه لبنان. هو حالياً في حالة موت سريري ينتظر انقطاع الأوكسيجين، فيما رسائل التحذير والتهديد الدولية تتوالى، دامجة بين الدولة اللبنانية وبين حزب الله، ومصرّة على تحميل لبنان كلّه مسؤولية أي مغامرات انتحارية قد تطرأ، سواء مالياً أو عسكرياً.
ضجيج المعارك المختلفة يجعل من اجتماع بعبدا والحكومة تفاصيل غير حاضرة وغير قادرة، لكنّه يجب ألا يحيل السنّة إلى التقاعد السياسي والوطني.
إنّه الوقت المناسب للفعل، وليس لردةّ الفعل.