قد تكون المعركة الأسهل لمعارضي ميشال عون، وبالتأكيد هي الغلطة الأكبر لـ”شاطر” بعبدا.
إعلان النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات تكليف قسم المباحث الجنائية المركزية التحقيق لمعرفة هوية الأشخاص الذين نشروا تدويناتٍ وصوراً تطال مقام رئاسة الجمهورية، وملاحقة أصحاب هذه الحسابات، أتى ليصبّ النار على زيت الاحتقان الشعبي بوجه رئيس الجمهورية ومؤيّديه.
فبدل الألف تغريدة رأينا خلال الساعات الأخيرة آلاف التغريدات، وربما مليون في الأيام المقبلة، في تحدٍّ مباشر للقابضين على أنفاس هؤلاء المنتفضين والجائعين والغاضبين من الوضع القائم، مع تمريك على السلطة: “ما في حبوسة بتساع كلّ الناس”.
إقرأ أيضاً: “آلو… ناطرينك بمكتب المعلوماتية”
لا غبار قانونيًاً على التكليف الصادر عن النيابة العامة التمييزية سنداً للمادة 384 من قانون العقوبات التي تعاقب “من حقّر رئيس الدولة بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين”. لكن تحت وطأة المصائب المتراكمة فوق رؤوس المفجوعين بالأزمات الخانقة وازدياد منسوب التضييق على الحريات، بات يرتقي الأمر إلى حدّ الفاجعة.
وقف جبران باسيل مع جان عاصي المعتدي لفظيًاً على مقام الرئاسة ضدّ الرئيس الجالس آنذاك في قصر بعبدا، لأنّ المصلحة السياسية والتعبئة في الشارع كانت تقتضي ذلك
أتى القرار إثر تكليف مجلس الوزراء وزيرة العدل ماري كلود نجم الطلب من النائب العام التمييزي إجراء التعقّبات “بشأن ما أثير ويُثار من وقائع ملفقة أو مزاعم كاذبة لإحداث التدنّي في أوراق النقد الوطني، والذي أدى إلى زعزعة الثقة في متانة نقد الدولة وغيرها من الأفعال الجرمية المنصوص عنها في الباب الأول من الكتاب الثاني من قانون العقوبات، تمهيداً لإحالة ما ينتج عن تلك التحقيقات من دعاوى، على القضاء المختص، بما فيه المجلس العدلي”.
الردّ الأقوى أتى من جانب عونيين سابقين شهدوا قبل عقود على معركة “جنرالهم” في الدفاع عن الحريات. نبشوا عبارته الشهيرة التي قالها عام 1989: “الوجود خارج إطار الحرية شكل من أشكال الموت”، ليؤمّنوا الغطاء لهم ولغيرهم في محاكمة سلوكيات عهد جَنَح صوب القمع.
تناسى المدافعون عن هيبة العهد أن العونيين أنفسهم كرّسوا “مدرسة” الاعتداء الصارخ على المقامات. ليس من وقت بعيد، تطوّع جبران باسيل ليكون المدافع الأول عن جان عاصي الذي أهان رئيس الجمهورية (في حينه) ميشال سليمان. عبارات سوقية ومبتذلة نشرها على صفحته لا تُقارن بتلك المنفلشة على حيطان مواقع التواصل اليوم ضدّ ميشال عون. لكن ما عَلينا. وقف جبران باسيل مع جان عاصي المعتدي لفظيًاً على مقام الرئاسة ضدّ الرئيس الجالس آنذاك في قصر بعبدا، لأنّ المصلحة السياسية والتعبئة في الشارع كانت تقتضي ذلك.
والعونيون هم أنفسهم من نكّلوا برئيس الجمهورية الأسبق إميل لحود. يومها لم يكن العالم الافتراضي حاكماً بأمر الشعوب والحكومات لكنّ الأرشيف موجود، ويجدر فقط “البقبقشة” في صندوق “عونيي” المرحلة الذين لم يقصّروا في شتم “فخامته”. أما لبّ القضية العونية، فكانت في جوهرها معركة حريات بوجه المحتل السوري!
لم يعد الأمر سرّاً. عهد ميشال عون هو عهد اقتياد أصحاب الرأي إلى الزنزانات، وعهد وقوف الصحافيين أمام المحقّقين، ورفع الدعاوى القضائية بحق الناشطين والشباب. وبدلاً من معالجة أصل المشكلة، يتمّ الركون إلى خيار “كتم الأنفاس” ومنع المتألّمين من الصراخ، وإن على حيطان الفيسبوك.
سبق لمستشار رئيس الجمهورية، وزير العدل السابق سليم جريصاتي، أن وصف معركة الحريات بـ”المعركة الوهمية ضدّ طواحين الهواء”، مشجّعاً تنظيم مواقع التواصل الاجتماعي. ليس هذا بالطبع ما تعتقده الغالبية العظمى من اللبنانيين مع تشبّث كثيرين بالخيط الرفيع الفاصل بين حرية التعبير وبين الاعتداء على الآخرين عبر الإفراط باستخدام هذا الحقّ.
هو جريصاتي نفسه الذي أفتى خلال عهد إميل لحود، إتكاءً على قانون عثماني بائد، بجواز ملاحقة العونيين والمنادين بالسيادة والاستقلال بوجه الاحتلال السوري، بتهمة “القيام بأعمال وخطب لم تُجزها الحكومة”، مع انتزاع تعهّد منهم بعدم التظاهر والاعتراض.
حدث ذلك في ظلّ شعار ارتقى يومها إلى مستوى المقدّسات لدى “الجنرال” المنفي بأنّ “الحريات العامة هي حقوق لا يجوز انتزاعها أو التنازل عنها أو التصرّف بها (Inaliénable)”. يجزم كثيرون أنّ ثمّة من ألبَس عهد ميشال عون ممارسات سبق أن عانى أنصاره منها أيام الاحتلال السوري.
يقول المدير التنفيذي لـ”مؤسسة حقوق الانسان والحق الإنساني” وائل خير إنّ “حرية الرأي مقدّسة، ولا سلطة لأحد بوضع قيد على حرية الرأي. القيد الوحيد هو النية وصدق المعلومات. إذا كانت النية سيئة يُحاسب المرء على النية وليس على القول. وإذا كانت المعلومات غير دقيقة وأدّت الى ضرر، عندها يُحاسب الضرر وليس حريّة الرأي. وبالتالي حرية الرأي مقدّسة، وليس لأحد الحقّ بالتعرّض لهذا المبدأ أو قضمه”.
ويشير خير الى أنّ “قرار مدّعي عام التمييز يستند إلى قانون وضعي هو قانون العقوبات، لكنه غير مُلزم طالما يتناقض مع القانون الطبيعي، أي المبادئ القانونية التي تقوم عليها حقوق الإنسان. فنحن لسنا أسرى القانون الوضعي. يمكن لأيّ دكتاتور أو نظام أن يُصدر قانوناً يحرّم كلّ من لا يستخدم لقب فخامة، فهل ننصاع له؟”.
ويتساءل خير: “ماذا يعني أصلاً مقام الرئاسة؟ وما هي المعايير التي تحدّد التعرّض له؟”، مذكّراً بأنّ “مؤسسة حقوق الانسان والحق الإنساني اعترضت، بناءً على دراسة أعدّتها، على عبارة وردت في اتفاق الطائف تقول إنّ حرية الرأي مقدّسة شرط أن لا تتعارض مع الانتظام العام. عبارة مطّاطية يمكن أن تشكّل انتهاكاً لحقوق الإنسان، فمن يقرّرالانتظام هو ضابط في جهاز أمني؟”، مؤكّداً أنّه “في الديموقراطيات لا شيء اسمه مقام الرئاسة”.
ويشير خير الى أنّ “العونيين خاضوا معركة حريات كبرى في الماضي، لكنهم اعتمدوا معايير مزدوجة في رحلة انتقالهم من المعارضة إلى السلطة والحكم. هذا نوع من الهزال والنكتة، ويدلّل على الضحالة وعدم تمسّكهم بالقيم. فكلّ ما يهمّهم هو الوصول إلى السلطة، وليس الدفع بالقيم السامية إلى الأمام. لقد استخدموا القيم في معاركهم النضالية، وحين وصلوا إلى السلطة تنكّروا لها”.