لم تكن التوترات السياسية والمذهبية والطائفية التي شهدتها العاصمة اللبنانية بيروت يوم السبت الفائت، إلا نتاجاً لمرحلة من التصعيد السياسي قادها حزب الله، وتوّجها برسالة وجّهها المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان لكلّ اللبنانيين بأنّ الصيغة قد سقطت بميثاقها وطائفها، ولا بدّ من البحث عن صيغة جديدة وبديلة. كانت القراءات الأولى للموقف تنطلق من حسابات تكتيكية، ومن أنّ حزب الله ردّ على محاولات إضعافه بالتحضير لانقلاب دستوري. لكنّها خطوة ذات أبعاد استراتيجية.
يعرف حزب الله كيف يعمل على أكثر من خطّ سياسي واستراتيجي. فهو يعلن التمسّك بالطائف، وينتهز أيّ فرصة لإثبات أنّه انتهى ولا بدّ من بديل له. يدّعي مواجهة الفيدرالية والتقسيم، ويعمل على تكريسها في آن واحد. حتّى قيل في تصريح قبلان إنّه ردّ على الطروحات الفيدرالية، التي ارتفعت من بعض القوى المسيحية وخصوصاً التيار الوطني الحرّ. لكنّ الفيدرالية بالنسبة إلى الحزب أمر واقع ومفروغ منه في بيئته وجغرافية مناطقه. هي مكرّسة في النفوس، وتجدّدت بلورتها في النقاشات التي أثيرت في الأيام الأخيرة حول السباحة وتعارضها مع دماء الشهداء، كما هو الأمر بالنسبة إلى منع الكحول في مناطق نفوذ الحزب على سبيل المثال لا الحصر. وهذه كلّها بوادر لـ”فدرلة اجتماعية” مكرّسة منذ سنوات، إلى جانب الفدرلة الأمنية وتلك العسكرية، وأيضاً الفدرلة المالية دولارياً، التي تجلّت في الأزمة الأخيرة، والتي يكمن جذرها في التمويل الدولاري الآتي من إيران وغيرها، في نظام مصرفي مقفل اسمه الحركي “القرض الحسن”.
إقرأ أيضاً: لا البلد “راكب” ولا الفدرالية “راكبة”
الخطّان اللذان يعمل عليها حزب الله، هما حماية منطقته الفيدرالية بما يريده ووفق القواعد التي يفرضها، مقابل السعي الحثيث والدائم لتسجيل اختراقات في صفوف البيئات الأخرى والنطاقات الجغرافية المختلفة. من بيروت، وهتاف “شيعة شيعة شيعة” في وسطها وأحيائها المسيحية والسنية مثلاً، إلى أطراف الشوف والجبل، ومن الشويفات إلى الناعمة والسعديات، وكيفون والقماطية وصولاً إلى العاقورة ولاسا وجرود جبيل وبعض قرى كسروان. وكذلك من اليمّونة باتجاه بشري أو بين عكار والهرمل.
وصل حزب الله إلى سيطرة سياسية شبه مطلقة على لبنان. إذا ما نجح في تكريسها دستورياً وفي بنية النظام، يكون قد سيطر على لبنان. وبحال لم ينجح في ذلك، فلديه دولته في مناطقه، مقابل اختراقه للكثير من المناطق الأخرى آنفة الذكر، وبذلك يعتبر نفسه أنّه تفوّق على كلّ “الشركاء” في الوطن.
مشهد السبت، يحوي الكثير من الترهيب والتهديد، للسنّة والمسيحيين معاً. وهو يظهر مسعىً جدّياً وعملاً ممنهجاً هدفه إجهاض الثورة الشعبية وتشتيتها، لا سيما عندما طرحت بعض المجموعات مسألة نزع سلاح حزب الله
ما بين الحدّين، هناك رهان من قبل القوى المسيحية وخصوصاً التيار الوطني الحرّ على العلاقة مع حزب الله للتمكّن من السيطرة أكثر على لبنان والدولة ومؤسساتها، لكنّه فيما بعد سينفجر حتماً وسيقع صدام بين الطرفين. حينها سيكتشف المسيحيون أخطاءهم القاتلة، والتي أثبت هشاشة رؤيتهم السياسية، فخسروا لبنان مجدّداً كما خسروه بعد حروب أهلية كثيرة.
مشهد السبت، يحوي الكثير من الترهيب والتهديد، للسنّة والمسيحيين معاً. وهو يظهر مسعىً جدّياً وعملاً ممنهجاً هدفه إجهاض الثورة الشعبية وتشتيتها، لا سيما عندما طرحت بعض المجموعات مسألة نزع سلاح حزب الله. طرحٌ عرف الحزب كيف يستغلّه جيّداً ليعيد إحياء التكتل الشيعي من حوله ولشدّ عصب جمهوره، وتجديد الاصطفاف السني الشيعي من جهة، وتوجيه رسالة بالغة إلى المسيحيين من جراء أحداث الشياح – عين الرمانة. فقد استنفر حزب الله القوات اللبنانية، لاستدراجها إلى مفاوضات لتكريس التهدئة، كما هو الأمر بالنسبة إلى السُنّة. والمشهد على الساحة المسيحية له أبعاد أخرى، من بينها إعادة باسيل إلى بيت الطاعة، لأنّه في حالة استنفار الشارع، يغيب باسيل ومناصروه وتكون القوات هي “الممسكة بالأرض”، وعندها لا بدّ أن يهرع باسيل إلى حزب الله.
فيدرالية حزب الله منجزة. معه الحدود مع فلسطين المحتلة، والحدود مع سوريا، وخلفه طائفة تتكتل خلفه بأكثريتها. اختراقاته في صفوف الطوائف والمناطق الأخرى أيضاً متحقّقة، سنياً ودرزياً ومسيحياً. يطمح لما هو أبعد من ذلك. مشكلة من يواجهونه أو يدّعون ذلك أنّهم لا يمتلكون أيّ مشروع مقابل، قادر على استعادة التوازن، والخروج من بين جنبات خيار من اثنين، إما الاستسلام لسلطته الكاملة بعد التطويع المستمرّ والممنهج، وإما الركون إلى منطق الفدرلة التي قد سبقهم إلى إنجازها وتسجيل اختراقات واسعة في صفوف الآخرين وعلى أراضيهم وبين جماهيرهم، ونوابهم طبعاً.
يبدو حتّى الآن أنّ الخيار الأوّل هو المحقّق…