أحد الناشطين على فيسبوك كتب بعد انطلاقة ثورة 17 تشرين الأوّل 2019: “اليوم انتهت الحرب الأهلية”. ولشدّة ما كان اللبنانيون متلهّفين لإعلان كهذا، بعد 20 عاماً من “وقف إطلاق النار”، فهذا المنشور تكاثر بشكل غير مسبوق وانتشر على مئات وآلاف الصفحات ونقلته وسائل الإعلام التقليدية.
أحد الأصدقاء قال لي مصرّاً: “الناس في لبنان ما عادوا مسيحيين ومسلمين، ولا سنّة وشيعة، صاروا لبنانيين”. وددتُ لو أصدّق. لكن لم أستطع. كنت أشارك في التظاهرات يومياً. كنت أرى في جل الديب والذوق “مسيحيين” وليس “لبنانيين”. وكنتُ أرى في ساحة الشهداء “شيعة” يعتبرون أنّ “سعد الحريري حرامي”، وسنّة يعتبرون أنّ “جبران باسيل حرامي”. ورأيت مشاركين من بني معروف، يعتبرون “البيك” خطاً أحمر، تماماً كما كان “شيعة شيوعيون” يرون أنّ “حسن نصر الله ليس سارقاً مثلهم”.
إقرأ أيضاً: الرئيس يسرق البرلمان: أنا السلطان، على الإنس والجان
وكان ما كان من تحرّكات مذهبية. من “دم الشيعة عم يغلي غلي” على جسر الرينغ، إلى “الدم السنيّ” الذي راح يغلي بعد تشكيل حكومة الرئيس حسّان دياب بدلاً من حكومة الحريري، والتحرّكات التي اقتصرت على “نقاط سنيّة” في بيروت والشمال والبقاع وصيدا.
كان 17 تشرين الأوّل مشهداً جامعاً، من حيث الانتشار والشكل، لكنّ المشاركين كانوا منقسمين، بين “لبنانيين حقيقيين”، من أولئك المدنيين الخارجين من عباءات طوائفهم، وبين مذهبيين وجدوا في الجوع و”القرف” من الطبقة السياسية باباً لخروج محدود من العباءات حيث يعيشون، وكان واضحاً أنّهم لا بدّ سيعودون إلى تحت تلك العباءات في لحظات آتية.
خلال الساعات الـ24 الماضية تحرّكت فيالق مذهبية عديدة في وقت واحد، لما ينبىء بموجة تسونامي مذهبية كبيرة آتية. فبعد البيانات والبيانات المضادّة عن “القهر السنّي”، التي بدأها النائب نهاد المشنوق منفرداً من “دار الفتوى” قبل أسبوع، شهدت الساعات الماضية تبادل بيانات بين بيت الوسط وبعبدا، محورها، وإن بلغة غير مباشرة، “حقوق المسيحيين في النظام”، من خلال “الشهوات الرئاسية” في بعبدا، و”حقوق السنّة”، من خلال الدفاع عن “صلاحيات السنّة” في النظام، أي صلاحيات رئيس الحكومة.
بعدها بساعات كان وليد جنبلاط يتوجّه إلى بعبدا، في لقاء مفاجىء مع رئيس الجمهورية. ونقل الزميل داود رمّال في موقع “180” معلومات عن أنّ جنبلاط “قال إنّه لديه اقتراحات ممتازة لأسماء تليق بالمواقع الثلاثة الشاغرة (نائب حاكم مصرف لبنان وقائد الشرطة القضائية وعضو هيئة الاسواق المالية): وعندما يحين التعيين، إذا طلبتم رأيي، فأنا جاهز لتقديم اقتراحات”.
قبلهم كان خرج الأمين العام لحزب الله، رجل الدين الشيعي حسن نصر الله، ليستنكر مداهمة السلطات الأمنية مساجد شيعية في ألمانيا
ساعات أخرى ويبدأ اجتماع “الروم الأرثوذكس” كما لم يجتمعوا من قبل، من أجل منصب في الدولة، هو محافظ مدينة بيروت وتعيين مارونيّ مديراً لإدارة الموظّفين في مجلس الخدمة المدنية بدلاً من أرثوذكسي. نواب ووزراء سابقون وحاليون، ورجال دين وأعمال وإعلام. “الأرثوذكس” كما لم ترونهم من قبل، في غرفة واحدة، قواتيين وعونيين، وحريريين ومستقلّين، و”ممّت جميعو”، وكان عنوانهم “منصب محافظ بيروت”. هذا هو الشائع، لكنّ المشكلة انفجرت بعد تعيين ماروني مفتّشاً عاماً من الفئة الأولى بدلاً من أرثوذكسي.
وكلّهم “وقفة رجل واحد”. وخرج نائب رئيس مجلس النواب إيلي فرزلي ليقول: “شهدنا ممارسات من شأنها أن تنتقص من حقوق الجميع وقد أصابت بشكل خاصّ حقوق الأرثوذكس”، وأعلن “تأليف لجنة من المجتمعين لوضع الخطة الضرورية واستراتيجية للتفكير بكيفية استعادة ما تمّ الاعتداء فيه على طائفة الروم الأرثوذكس من حقوق”.
خطّة استراتيجية لاستعادة حقوق الأرثوذكس؟
قبلهم كان خرج الأمين العام لحزب الله، رجل الدين الشيعي حسن نصر الله، ليستنكر مداهمة السلطات الأمنية مساجد شيعية في ألمانيا. ألمانيا؟ ماذا يفعل حزب الله في مساجد ألمانية؟ نصر الله يدافع عن حقّ الشيعة اللبنانيين في العمل السياسي والأمني والمالي بحريّة في مدن ألمانية.
لا داعي للتحليل والإطالة. الجوع لا يزال على حاله في كلّ لبنان. والبطون لا تزال خاوية وستظلّ لوقت طويل. جزء كبير من الذين يشاركون في التظاهرات والاحتجاجات لا يجدون مكاناً آخر، ولا شيئاً آخر، يفعلونه أو يذهبون إليه.
لكن المؤسف أنّ أعداد المدنيين تراجعت في الشوارع، وارتفعت أعداد حاملي قنابل المولوتوف ومحطّمي واجهات المصارف، ما يفتح الباب أمام المستثمرين في الشغب، ويسهّل على الأجهزة الأمنية إطلاق الرصاص والقتل والتعذيب خلال التحقيقات لانتزاع اعترافات عن “أجندات أجنبية”، بحسب لغة السلطة خلال الأسبوع الأخير.
“اليوم انتهت الحرب الأهلية”، قال أحدهم حين بدأت ثورة 17 تشرين.
أنظروا من حولكم، كيف أنّ المذهبية لا تزال هي الخطاب الأقوى، الأعلى صوتاً، سنّة وشيعةً ودروزاً ومسيحيين. أنظروا إلى “الخطة الاستراتيجية” لاستعادة حقوق الأرثوذكس.
لا، الحرب الأهلية لم تنتهِ.