ما عاد “التيار الوطني الحر” تستهويه السياسة في شكلها التقليدي، وإنّما جنح صوب الفنّ التشكيلي والنشاطات التعبيرية والسوريالية. تيار السلطة الذي يستحوذ على رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ومجلس الوزراء وهو جزء أساسي في الأكثرية النيابية، ويسعى لإيصال جبران باسيل إلى الرئاسة بشتّى الطرق، ولا يخجل كذلك من التسلّط وتحريك الحكومة ورئيسها عن بُعد، يتوق إلى ركوب موجة الثورة لكنّه لا يجد إلى ذلك سبيلاً. سعيه لم يتوقّف. تارة من خلال تنظيم التظاهرات أمام المصرف المركزي رفضاً لسياساته النقدية، وتارة أخرى من خلال خطابات رئيسه الوزير جبران باسيل التي يغازل فيها ثوار “17 تشرين الأول”.
إقرأ أيضاً: ملفّ مليارات رياض سلامة: بين باسيل والحكومة؟
آخر هذه المحاولات، وأكثرها جديّةً، كانت “مشهدية الكراسي” أمام المتحف الوطني يوم السبت الفائت، المطالبة بـ”الحقيقة” و”استعادة الأموال المحوّلة” إلى الخارج. 17 كرسياً بلاستيكياً مثّلت عددَ الشخصيات التي يزعم التيار أنّها حوّلت أموالها إلى الخارج، أرفقها بأرقام الأموال المُحوّلة وبإيحاءات تشي بهويّة كلّ شخصية من، خلال بعض الصفات والشروح: “رئيس حكومة سابق: 270 مليون دولار”، “نائب من الشوف ووزير سابق: 10 ملايين دولار”، “زعيم طائفي: 240 مليون دولار”، “نائب من الجنوب: 65 مليون دولار”، “قاضٍ سابق: 30 مليون دولار”، “صاحب مصرف: 300 مليون دولار”، “مدير عام: 15 مليون دولار”.
[VIDEO]
ربما اختيار المتحف ليكون مكاناً لهذا العرض، قد كشف العقل الباطني لجماعة التيار، فوشى بأنّ فكرة انضمامهم إلى الثورة ليست إلا تطلّعاً أو تمنّياً من ماضٍ غابرٍ مكانه الفعلي المتحف الوطني.
الطريف في الأمر، وما لم يُهمّ، هو لماذا الرقم 17. لما لم يكون عدد محوّلي الأموال 15 أو 20 أو حتّى 30؟
كان لافتاً أنّ “القرار الاتهامي” الخاصّ بالتيار وكراسيه الـ17، يوحي صراحة بمعرفة مسبقة بأسماء أصحابها. لكنّ معدّ هذه اللائحة لم يجرؤ على تسمية هذه الشخصيات وفضّل الإيحاء والإيماء، بل لم يجرؤ حتّى على حمل لائحته، وإنما لجأ إلى لعبة الكراسي الشاغرة بحجة احترام التباعد الاجتماعي.
مصادر مصرف لبنان تقول لـ”أساس” إنّ “هيئة التحقيق الخاصة أبلغت النيابة العامة التمييزية بأنّ الأموال المحوّلة بين 17 تشرين الأول و31 كانون الأول 2019 هي هروب أموال وليس تهريب أموال وهذا قانوني”. بالطبع يمكن القول إنّ هذا “الهروب” غير أخلاقي، لكنّه ليس بالضرورة غير قانوني.
المرتكب الأساسي هو مالك الحساب الذي هرّب الأموال، والمسهّل هو المصرف المحلي، فيما مصرف لبنان وضمنه هيئة التحقيق الخاصة هما اللذان يشاركان في إخفاء الجرم
وتضيف المصادر أنّ “الأموال المحوّلة لا تشوبها أيّ شبهات بحسب المصارف وهي تعود إلى أفراد وشركات”، وبالتالي لا يمكن رفع السرية المصرفية “إلا بموجب تكليف قضائي صريح يحمل أسماء الأشخاص بذاتهم وطبيعة الشبهة”.
المصادر تكشف أيضاً أنّ “ما يقوم به التيار الوطني الحر أو أيّ طرف سياسي آخر في هذا الخصوص، ليس إلا بروباغندا سياسية. فهو لا يملك أسماءً ولا يمكن رفع السرية المصرفية عن هذا أو ذاك، وإلاّ أصبح مصرف لبنان وهيئة التحقيق الخاصة محطّ اتهام بالتسييس والاستنسابية”. وتضيف المصادر أنّ “التحقيق بحسابات السياسيين بحاجة إلى قرار قضائي محدّد بتسميات وإلا الهيئة مُطالبة بأن تبدأ من رأس الدولة، أي رئيس الجمهورية، إلى أصغر سياسي في البلد… وهذا غير منطقي وغير قانوني. هم يحمّلون القضاء والقطاع المصرفي أكثر من طاقتهما على التحمّل، وهما الأساسيان لبناء الاقتصاد في أيّ بلد. ولا يجوز جرّ المناكفات السياسية إليهما”.
إلا أنّ جهات مصرفية وحقوقية لها رأي آخر. المحامي المتخصّص في الشؤون المالية علي زبيب يقول لـ”أساس” إنّ “الأشخاص المكشوفين سياسياً أو الـPEPs غير معرّفين بشكل صريح في القوانين اللبنانية للأسف. لكنّ لبنان وقّع على الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد UNCAC”. وبنظر زبيب فإنّ المصارف مجبرة بموجب القوانين “أن تبلغ هيئة التحقيقة الخاصة بأيّ تحويل يشكّل اشتباهاً، وهذا قبل الوصول إلى مرحلة رفع السرية المصرفية”.
وبحسب زبيب، فإنّ الجميع متّهم بالتقصير، لأنّ “المرتكب الأساسي هو مالك الحساب الذي هرّب الأموال، والمسهّل هو المصرف المحلي، فيما مصرف لبنان وضمنه هيئة التحقيق الخاصة هما اللذان يشاركان في إخفاء الجرم. الجسم القضائي لا يتجرّأ على التسمية المباشرة مع أنّ القانون رقم 44 واضح جداً. وأضف إلى ذلك، أنّنا في دولة لبنانية موقّعة على اتفاقية دولية تخصّ مكافحة الفساد (UNCAC)، لكن نعاني من تجاهلها تماماً”.
من حقّ الشعب اللبناني أن يعرف الحقيقة. ومن واجب القضاء ومصرف لبنان الكشف عمّن أخرج الأموال من الشخصيات العامة تحديداً. لكن في المقابل أن يتبنّى “التيار الوطني الحر” هذا الكلام لا يعفيه من المسؤوليات، ويضع سياسييه من وزراء ونواب في موضع الاتهام أيضاً مثل سائر سياسيي الأحزاب الأخرى. الطلب بكشف أسماء من حوّل الأموال إلى الخارج ليس إلا من باب “ذرّ الرماد في العيون”… والانتساب زوراً إلى “الثورة” لن ينجح بالتأكيد، لكن هذا لا يعني أنّ ما يطالبون به ليس محقّاً.