رمى رئيس الحكومة حسان دياب ورئيس “التيار الوطني الحرّ” (الحاكم) جبران باسيل رقمين في سوق القطع السياسي، ليشكّلا أساس المضبطة التي سوّغ بها دياب الانقلاب على ما يراه انقلاباً؛ على ما أرمز إليه استشهاده بالآية الكريمة: “وسيعلم الذي ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون”.
قال دياب إنّ 5.7 مليار دولار من الودائع خرجت من المصارف اللبنانية خلال كانون الثاني وشباط من هذه السنة، وفصّل باسيل أنّ 3.7 مليار دولار خرجت من فئة الودائع التي تفوق المليون دولار. الرقمان استُخدما في سياق اتهام مباشر لخصومهما في السياسة بتهريب الأموال إلى الخارج، لترمى عليهم مسؤولية نضوب السيولة في البلاد وجنون الدولار.
واضحٌ أنّ الرجلين يقرآن في كتاب واحد، أو أن أحدهما يملي على الآخر شيئاً من أفكاره. وإن كان في ذلك شك، فقد قطعه باسيل بكلمته أمس، التي تطابقت في بعض تعابيرها وأفكارها مع كلام دياب حرفياً. بل إن الرجل ذهب إلى حدّ إعلان خطوط تفصيلية من خطة الحكومة المنتظرة، قبل أن يعلنها دياب!
إقرأ أيضاً: في قلب الصراع: من يسيطر على البنوك؟
ما يعنينا في ملف التحويلات إلى الخارج، أن الرجلين استندا إلى جدول البيانات الذي أعدّته لجنة الرقابة على المصارف، وتتوافر منه نسختان، إحداها لأحجام الودائع من مختلف الشرائح كما في 28 كانون الأول 2019، والثانية كما في منتصف شباط 2020. بمقارنة النسختين، يتبيّن أن الرقم الذي ذكره باسيل في تغريدة على تويتر قبل أيام، يمثّل حجم الانخفاض في الودائع الدولارية بين نهاية 2019 ومنتصف شباط 2020، من فئة المليون دولار فما فوق، من 61.6 مليار دولار إلى 57.9 مليار دولار. بينما يمثّل الرقم الذي ذكره دياب مقدار الانخفاض الكلّي في الودائع، بالليرة والدولار، من 154.7 مليار دولار إلى 148.9 ملياراً. (انظر الجدول)
هل يمكن الركون إلى الرقمين؟
حتماً لا.
ببساطة لأنّ مقولة دياب – باسيل مبنيّة على افتراض سياسي محض، بأنّ هذا الانخفاض ناجم عن التحويلات إلى الخارج، مغفلاً ألف سبب وسبب لاستنزاف السيولة.
1. يغفل افتراض الرجلين جملة حقائق يدركها المتابعون للوضع المصرفي، أهمّها أنّه في مقابل انخفاض الودائع، انخفض حجم التسليفات للقطاع الخاص في الشهرين الأوّلين من العام الجديد بمقدار 3.33 مليار دولار، فيما انخفضت التسليفات الدولارية بنحو ثلاثة مليارات دولار، وفق بيانات جمعية المصارف.
2. هذا الانخفاض في حجم التسليفات الدولارية تحديداً، لا يمكن أن يكون ناتجاً عن سدادٍ بأموال طازجة من خارج القطاع المصرفي، بل هو في الغالب من عمليات تصفية (netting) مباشرة أو غير مباشرة، بين الودائع والقروض، أو عمليات شراء أصول بين عملاء المصارف، مقابل شيكات مصرفية، تتبعها تصفية التزامات بنكية على البائع، وتصفية حسابات مدينة (ودائع) للمشتري.
3. أضف إلى ذلك أنّ تمويل الاستيراد يشكّل مصدراً من مصادر استنزاف الودائع. في شهر كانون الثاني وحده، بلغت قيمة الواردات 1.15 مليار دولار، ولم تصدر بيانات شباط بعد. وليس سرّاً أنّ كثيراً من المستوردين لا يضخّون أموالاً جديدة في البنوك إلا بالحدّ الأدنى الضروري لتسيير الأعمال إذ إنّهم يستعملون ودائع شركاتهم أو بعضها في المصارف التي تثق بهم لاستيراد بضائعهم وبعد بيعها يزوّدون المصرف بدولارات “Fresh” بجزء كبير من قيمة ما استوردوه والباقي وهو قليل بشيكات مصرفية.
4. وكذلك، فإنّ السحوبات من الودائع ما زالت تشكّل مصدر استنزاف لحجمها الكلي، مهما بلغت شدّة القيود التي تطبّقها المصارف.
5. أخيراً، ثمّة خلط أساسي في الافتراض الذي ذكره باسيل، وهو أنّ انخفاض الودائع الدولارية التي تفوق مليون دولار بمقدار 3.7 مليار دولار لا يعني بالضرورة أنّ هذه الأموال خرجت من البنوك، بل إن ّمن المؤكد أنّ جزءاً من هذه الأموال انتقل من شريحة إلى أخرى، بفعل عمليات تجزئة الحسابات أو سحب ما أمكن منها، لخفض رصيدها دون حدّ المليون دولار، ربما لتجنيبها مقصلة “الهيركت”. والدليل على ذلك أنّ فئة الودائع التي تقلّ عن مليون دولار ازدادت خلال الفترة نفسها بنحو 1.4 مليار دولار.
الحرب التي أعلنها رئيس الحكومة من قصر بعبدا قرارها في قصر بعبدا، وبات واضحاً الآن أنّ هدفها هو إقصاء سلامة، والدخول إلى قلب النظام المالي، لإعادة موازين القوى فيه
ولا بدّ من الأخذ في الاعتبار أّن القرش الذي يخرج من البنوك لا يأتي بديل له، نظرا للتحوّل المتزايد إلى الاقتصاد الورقي. فكثير من الشركات باتت تدفع رواتبها نقداً، هرباً من قيود البنوك، وذاك هو حال الشركات الأجنبية والمنظمات الدولية، التي باتت تدفع الرواتب نقداً أو عبر شركات تحويل الأموال.
تكفي الشواهد أعلاه لضرب مصداقية المضبطة السياسية التي تشهرها جبهة عون – دياب، لكنّها لا تكفي لدحض وجود تحويلات، وتهريبِ أموالٍ يمسّ أساساً أخلاقياً في علاقة البنوك بالجمهور من المواطنين. بيانات هذه التحويلات متوفّرة لدى مصرف لبنان، ولا شك أنّه بات الآن في موقع حرج يدفعه للإفصاح عما هو ضروري لإسقاط مضبطة الاتهام له، ولنادٍ يجمع طائفة من صنّاع السياسة التقليديين وأرباب الصناعة المالية.
الحرب التي أعلنها رئيس الحكومة من قصر بعبدا قرارها في قصر بعبدا، وبات واضحاً الآن أنّ هدفها هو إقصاء سلامة، والدخول إلى قلب النظام المالي، لإعادة موازين القوى فيه، بما يكفي لإرساء توازنات مختلفة في النظام السياسي.
لا يمكن قراءة تعيين ثلاث شركاتٍ للتدقيق في حسابات مصرف لبنان، سوى أنّه محاولة من جبهة عون- دياب للدخول إلى لوحة التحكّم المركزية (motherboard) في مصرف لبنان، والولوج منها إلى التعاملات بينه وبين البنوك، للبحث فيها عن إدانة تُقصي الخصوم، وتّعفي من هم في الحكم من تبعات المسؤولية عن قائمة طويلة من موبقات الفساد، في الكهرباء والمرفأ والمطار والجمارك، وفي الإدارة العامة المترهّلة، والإنفاق الاعتباطي على مشاريع انتخابية يموّلها المال العام.
أخطر ما في بيان دياب رقم 1، أنّه لا يقدّم رؤية بديلة للسياسة المالية أو النقدية، بل يبحث مسبقاً عمن يحمّله مسؤولية الانهيار.