يحنّ الشيخ للعودة إلى صباه. الطبع يغلب التطبّع. ما أشبه اليوم بالأمس، وربما بما هو أسوأ منه. في سنوات أفول البعث، يحاول البعض في لبنان استنساخ التجربة البعثية البائدة. يتحضّر هؤلاء للإجهاز على البلاد بانقلاب نهائي، اقتصادياً ومالياً، وبوليسياً. وللانقلاب عناوين وتفرعات كثيرة، بدءاً من استحضار حروب الإلغاء في الثمانينيات، التي خاضها الجنرال ميشال عون حينها ضدّ كل خصومه على الساحة المسيحية في سبيل الوصول إلى رئاسة الجمهورية. وها هو يحنّ إليها اليوم ويكرّرها على الساحة الوطنية الأوسع، ضد كلّ خصومه أو المختلفين معه، أو معارضي مشروعه المتكامل مع مشروع حزب الله للسيطرة على لبنان.
يجمّع عون بين يديه كلّ مقوّمات الصراع والتفجير. العنوان الأساس هو الانقلاب على اتفاق الطائف وما يسمّيه “استعادة صلاحيات رئاسة الجمهورية”. هذا الجموح ضرب ما تبقّى من وحدة وطنية، ومن استقرار سياسي وأمني واقتصادي. تجتمع طموحات عون وأحلامه مع مشروع مكتمل العناصر لدى حزب الله في الإطباق على لبنان، بعد اجتياح سوريا والعراق، باعتباره فيلقاً من فيالق جيوش فارس. تجتمع النزعة الفارسية مع نزعة يمينية مسيحية تناصب العداء للعرب، وتجد هويتها في الانتماء إلى صفوف تحالف الأقليات. تلتقي النزعتان مع الصفوة البعثية التي يدّعيها نظام الأسد المعادي لأي مشروع تحرّري وتقدمي عربي.
إقرأ أيضاً: آخر نكتة: الإصلاح والتغيير صار عهداً قوياً!
لحزب الله جناح العسكرة والسيطرة، ولعون لعبة الداخل بإضعافه وإغراقه في حروب ونزاعات لا تنتهي، ومن البعث تُستمدّ أساليب بوليسية بمفعول رجعي تعود إلى حقبة إميل لحود، وكانت هدفها يومها تحويل لبنان إلى دولة بوليسية.
في العام 1998، حين بدأ الانقلاب على الرئيس رفيق الحريري ومشروعه، ابتكر البعث اللحودي فكرة تعيين ضبّاط أمنيين في كلّ الوزارات. خسر المشروع طوال السنوات التي تلت. كان الثمن غالياً وهو دماء رفيق الحريري التي أخرجت جيش البعث من لبنان.
النسخة المستحدثة هذه الأيام تبدو أردأ: تحويل إدارات الدولة إلى أوكار جاسوسية، توكل المهمات فيها إلى عناصر أمنية تتولّى إعداد التقارير الأمنية، للتحقيق بحسابات الوزارات والإدارات والوزراء والنواب لخمس سنوات ماضية فقط، أي بعد خروج التيار العوني من وزارة الاتصالات، وبعد خروجه شخصياً من وزارة الكهرباء، تاركاً من سمّاه من مستشاريه بديلاً عنه. وكذلك في الاتصالات التي تولّاها هو شخصياً، ومن بعده نقولا صحناوي، قبل أن تنتقل إلى خصومهم في العام 2014.
هذا يفضح بند “السنوات الخمس الماضية” الواردة في مشروع الحكومة البوليسي، بدلاً من عشر سنوات مثلاً، حين كان التيار العوني في وزاراتٍ مشتبه بها، مثل الطاقة والاتصالات. فهل ينطبق الأسلوب البوليسي على باسيل ووزرائه العونيين أيضاً أم فقط على خصومهم؟
هذا نموذج حتّى كوريا الشمالية شارفت على طيّه. نموذج أحرق أكثر الأنظمة التي ابتكرته في العالم. وحتماً سيحترق به طامحون وطامعون في لبنان. لا يُقدم على مثل هذه الخطوة، إلا عاجز أو ضعيف يحاول الاستعاضة عن نواقصه بدسّ الدسائس وصيغ المكائد وتركيب الملفات.
وقد استمرّ الانقلاب على لبنان الدولة. في 7 أيار 2008 عُسكرت السياسة في لبنان، واستُكمِلَ المسلسل في عراضة “القمصان السود” لتشكيل الحكومات. والقفزة الأكبر في مساره كانت التسوية الرئاسية التي سمحت لمن خاض غمار السياسة في كلّ تاريخ على خصومة الطائف، أن يُنتخب رئيساً للجمهورية بموجبه، وعاد لينقلب عليه. اليوم يرتضي حسان دياب أن يكون الخنجر الذي سيضرب لبنان من خاصرته، من اتفاق الطائف، إلى تسديد الفاتورة الأخيرة لاغتيال رفيق الحريري وما يمثّله.
استُخدم دياب بداية كصدى لتهديد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. حقنه معارضو سلامة والطامحون لإقصائه بهدف السيطرة على القطاع المالي في لبنان، كما حقنه من يريدون تطويع سلامة وتكميم تعميماته للارتياح دولارياً واكتناز العملة الخضراء الممنوعة عنهم بفعل العقوبات. هجم دياب على سلامة، فيما خرج من حقنوه ليتبرّأوا من دم الصديق.
هكذا أخذت تتحوّل الحكومة إلى مجرّد ضابطة عدلية، والسلطة التشريعية إلى شاهد زور، بينما السلطة القضائية تستحيل عنصراً متفرّجاً على ما تقرّره أهواء ضابط أمني يرتبط بتوجيه حزبي
طوى هؤلاء لحساباتهم ومصالحهم، المعركة مع حاكم مصرف لبنان، غيّروا وجهة المعركة، وابتكروا العودة إلى القديم، إلى أسلوب البعث وإميل لحود بتكليف أجهزة أمنية بالتحقيق داخل الوزارات والإدارات، وتلك معركتهم الجديدة في التصفية السياسية التي سيخوضونها ضدّ معارضيهم. ارتضى دياب أن يكون ناطقاً باسم الحركة البوليسية. يندفع بحماسة لأن ليس لديه ما يخسره، ومن يدفعه يجيد إتقان الحساب، فسيتراجع كي لا يخسر ويصطدم بجدار مسدود، فيما دياب سيؤول إلى تحت ركام الجدار.
من وضع جدول أعمال مجلس الوزراء يوم الثلاثاء، لا يعرف لبنان حتماً، جاهل بالتاريخ وبالجغرافيا والطبائع البشرية. يختار جدول أعمال من ثلاثة بنود، وهو يظنّ نفسه محكمة ثورية تريد تصفية الناس تبعاً لأهواء ومصالح سياسية، بلا أيّ دلائل أو إثباتات، ظنّاً منه أنه يمتلك الأجهزة الأمنية والعسكرية والتي بدأ رئيس الحكومة بزيارتها تباعاً لكسب ودّها، واستقطابها في معركة تصفية الحساب، التي يحضرون لها في جدول الأعمال هذا، والذي سيقضي على ما تبقّى من مؤسسات وسلطات في لبنان.
هكذا أخذت تتحوّل الحكومة إلى مجرّد ضابطة عدلية، والسلطة التشريعية إلى شاهد زور، بينما السلطة القضائية تستحيل عنصراً متفرّجاً على ما تقرّره أهواء ضابط أمني يرتبط بتوجيه حزبي. المشروع بكامله عبارة عن معركة سياسية ستكون طويلة ومفتوحة، لمن يريد فرضها عبرة علّه أن يعتبر من نهاية عهد إميل لحود ومصير البعث السوري.
المواجهة بدأت، ستكون طويلة، ومكلفة، وستتعب لبنان واللبنانيين، لكنّ “الدولة البوليسية لن تمرّ”.