منذ بدايات ظهور ميشال عون على الساحة السياسية في العام 1988، انحسرت المساحات المسيحية بين دينامكيتين، قوّاتية وعونية، وتراجعت باقي الأحزاب إلى شفير الاضمحلال، وبدأ صراعٌ حقيقي، خفيّ في البداية، بين القوّتين المارونيتين المسلحتين بترسانتين عسكريتين ضخمتين، وبعشق المنتمين إليهما كأنبياء.
خلق ميشال عون حالة استثنائية في حينه ونجح في جذب الرأي العام عبر لباس الشرعية، واضعاً القوّات وسمير جعجع في موضع المتّهم الذي “يسيطر على المعابر، ويأخذ الخوّة على البنزين والخبز للمجهود الحربي”… ليكون ثمن إراحة الناس من بضع ليرات على كل مواطن صُرفت في اتجاه دعم جيش”المقاومة اللبنانية”، تلك التي كان عون جزءاً منها في زمن بشير الجميل باسم “رعد”.. ليكون ثمن ذلك تأييداً شعبياً منقطع النظير لحروب عون ضدّ القوّات بدايةً في 14 شباط 1989، أوقفها جعجع في يومٍ واحد عبر مبادرته بالصعود إلى بعبدا. لكن تلتها بعد شهر واحد في 14 آذار من العام نفسه مواجهة ساذجة ضدّ الجيش السوري تحت عنوان “حرب التحرير” انتهت بوقف إطلاق النار بين لبنانيين، لا علاقة للسوريين فيه، وبرعاية عربية ومظلّة دولية.
وكان اتفاق الطائف الذي عرض على عون وزارة الدفاع ووزارات أخرى، أما رئاسة الجمهورية فكانت للشهيد رينيه معوض، الذي سقط نتيجة عدم انصياعه لإرادة السوريين.
إقرأ أيضاً: رحلة سمير جعجع عبر 14 آذاراته (1/2)
أمام هذه المحصّلة الأولى من الجزء الأوّل من علاقة عون – جعجع، انتهت الحالة العونية – القواتية إلى حرب ثالثة عنوانها “حرب الإلغاء”، وضع أوزارها عون في كانون الثاني 1990 لرفضه اتفاق الطائف بشعار جديد يخفي خلفه الجموح الرئاسي الذي لا يتوقّف: “لا للطائف، لا لعملائه”.
ثلاث حروب كبيرة في أقلّ من عشرة أشهر تلاها بعد سنة انهيار مشروع عون ووصول الياس الهرواي إلى بعبدا بعد عملية 13 تشرين ودخول الجيش السوري إلى بعبدا.
خلال الفصل الأوّل من هذه العلاقة، حاول جعجع مراراً توحيد القيادة السياسية مع عون عبر تكراره الطلب بتوسيع الحكومة العسكرية في حينه والتي اقتصرت على ثلاثة ضباط، لكن من دون جدوى، فكان أن تتالت الحروب لتنتهي بإنهاك قوى “القوّات” العسكرية، وانتهاء قوّة عون العسكرية إلى ثنائية عدائية فاشلة، ليصبح عون قدراً لجعجع عبر قراراته الرعناء التي أدّت إلى انهيارات متتالية من دون أيّ مكسب حقيقي على الإطلاق، باستثناء “مناعة القطيع” الماروني الذي حصد أكثريته عبر الشعار، وحصد مع هذه المناعة مجموعة شخصيات سياسية وإعلامية باحثة عن دور وموقع. فكانت لها ساحة بعبدا لتعبّر عن تأييدها، ولا موقع، وفُتحت لها باحة الإعلام لتغرق في حبر الضغينة والتحريض.. ولا موقع.
عندما تخلّى عون عن جعجع ألحقت لعنة جعجع به الهزيمة ليلجأ إلى فرنسا، وعندما أُجبر جعجع على مواجهة عون انهار كلّ ما سعى إلى بنائه ليتمّ اعتقاله بعد استمراره في الرفض ولو وحيداً، بل يتيماً، من دون حليف حقيقي.
مرّت سنوات عجاف، ليلتقي الضدّان من جديد، وتعود اللعبة إلى الصفر وكأنّها مباراة الثأر.. وعاد عون قدراً لجعجع ليقاتله مجاناً معتمداً على “الأسلحة السورية” لغايته (القضاء والأحكام في زمن الوصاية)، بل قل كلّ أنواع الأسلحة، ممعنةً في محاولات تشويه صورة الرجل وأبلسته ومحاولاً تصفير سني اعتقاله السياسي وتحويلها من عملٍ بطولي إلى عقوبة طبيعية. فاستعرت من جديد بين القوات والعونيين لتبلغ حدود إلغاء الآخر ولو من دون دماء.
دخل عون إلى بعبدا وعاد الزمن إلى الوراء مرةً اخرى. أسقط اتفاق الشراكة وخصوصاً البند (ز) منه، وأهمل تطوير العلاقة مع القوات ورمى جانباً بورقة النيّات، وبالنيّات نفسها، وتنازل عن سياسات الإصلاح التي اتفق مع القوات عليها، بل عمل صهره على عكسها
وكان مساءٌ وكان صباح يومٍ آخر، لتتدخّل الأحداث والحسابات المسطّحة لبعض حلفاء جعجع، وتحوّل ميشال عون قدراً له من جديد… وهكذا وبعد كل ما سال من حبر على رقص الشياطين، تأبّط عون حلمه الرئاسي الثقيل والطويل وسار إلى معراب في ليلةٍ عاصفة من ليالي كانون الثاني طوى معها صفحاتٍ قاسيات، وقرّر على ما قال: “لا يجب أن ننسى حتّى لا نكرّر الخطأ مرّة أخرى، لكن يجب أن نتعلّم ونضع أيدينا بأيدي بعض لأجل المستقبل…” ومن ثمّ سقطت ورقة سليمان فرنجية ورقص القواتيون مع العونيين في مسيرات واحدة وعلى وقع أغاني “أوعا خيك” وسواها مما نسجته الرغبة الشعبية المسيحية الجامحة من عامة ونُخب إلى تلك المصالحة التاريخية.
إنّه ميشال عون، قدر سمير جعجع!
دخل عون إلى بعبدا وعاد الزمن إلى الوراء مرةً اخرى. أسقط اتفاق الشراكة وخصوصاً البند (ز) منه، وأهمل تطوير العلاقة مع القوات ورمى جانباً بورقة النيّات، وبالنيّات نفسها، وتنازل عن سياسات الإصلاح التي اتفق مع القوات عليها، بل عمل صهره على عكسها، وأصبح لقاؤه مع سمير جعجع مدعاةً لرفع العتب، فأمست التصدّعات بين الرجلين تتحوّل إلى انهيارات، لتكبر كرة الثلج وتكبر وتتراكم أحزان الناس والمآسي في زمنٍ وعهدٍ يفترض فيه أن يكون عهد السير معاً ليكون العهد القوي. ولكن كلّما اهتزّت الثقة وحضرت الخيانات، سقطت اللعنات من جديد…
وتنطلق ثورة 17 تشرين و”هيلا هيلا هو” على عهد عون مرّة ثانية، وبعد ثلاثين سنة من انتظاراته، وكأنّه الفصل الثالث والأخير من حكاية ضدّين، طال انتظار ضدٍّ منهما لثلاثين سنة، ليظهر حسنه الضدُّ، وتسقط أبلسته ويُسقط بدوره عهداً قيّض له أن يكون الأقوى، فيُسقطه في نصفه بمصالحة، فتخلٍّ، فلعنة، فقدَر.
إنّه سمير جعجع، لعنة ميشال عون.