ترتبط قصة فندق “بريستول” الذي أطفأ أضواءه قبل أيّام عن عمر 70 عاماً، بصعود بيروت وازدهارها، ومحاولة القضاء عليها، والانتهاء منها بعد اندلاع الحرب الداخلية في 1975 وما تلاها. أوقف التدهور محاولة لإنقاذها قام بها رفيق الحريري. لكنّ المدينة ومعها لبنان وصلت في السنة 2020 إلى مرحلة بدأت تلفظ فيها أنفاسها في سياق الارتكابات اليوميّة لـ”العهد القوي” الذي هو عملياً “عهد حزب الله”.
إقرأ أيضاً: البريستول وأسلافه: بيروتنا تفقد عناوينها
يختزل الـ”بريستول” قصة بيروت. ليس الـ”بريستول” مجرّد فندق لبناني آخر أغلق أبوابه أخيراً بمقدار ما أنّه مجموعة من الرموز في رمز واحد. يرمز قبل كلّ شيء إلى قدرة بيروت المتنوّعة على الصمود. هل انتهى صمود بيروت مع اضطرار الـ”بريستول” إلى الإغلاق نهائياً في انتظار أيّام أفضل… قد تأتي وقد لا تأتي!
تملّك الفندق الذي باشر نشاطه قبل سبعين عاماً عائلة ضومط المارونية العريقة. إنّه، باختصار، فندق عائلي ذو موقع مميّز في منطقة رأس بيروت قرب حيّ الصنوبرة وقريطم وعلى مرمى حجر من شارع الحمرا. استطاع أن يرمز أوّل ما يرمز إلى العيش المشترك في بيروت من جهة، وإلى ازدهار المدينة وتحوّلها إلى عاصمة الانفتاح على كلّ ما هو حضاري في العالم، عاصمة الذوق الرفيع والثقافة والفنّ والإعلام العربيين من جهة أخرى.
في ذلك اليوم بالذات، بدأ التحوّل الكبير، بما في ذلك الموت البطيء لشارع الحمرا والأماكن القريبة منه. بعد السادس من شباط 1984، بوشرت عملية تهجير واسعة للمسيحيين من المنطقة، ثمّ لمجموعات صغيرة كانت جزءاً لا يتجزّأ منها، بما في ذلك الأرمن والفلسطينيون المسيحيون. لوحق لاحقا ما بقي من يهود لبنانيين في بيروت. هناك عائلة فلسطينية مسيحية ما زال أفرادها مختفين إلى الآن… مع كلبهم!
كان الـ”بريستول” بمثابة اختراق ماروني نوعي لرأس بيروت السنّية – البروتستانتية – الأرثوذكسية – الدرزية. أكثر من ذلك، كانت رأس بيروت، حيث تقع الجامعة الأميركية حالة لبنانية فريدة من نوعها، فريدة إلى درجة يمكن الحديث فيها عن جمهورية رأس بيروت داخل الجمهورية اللبنانية (وهو عنوان كتاب لسمير صنبر).
صمد الفندق صاحب النجوم الخمسة صموداً أسطورياً في حرب السنتين 1975 – 1976، وفي أثناء الاجتياح الإسرائيلي صيف العام 1982، وفي مرحلة ما بعد السادس من شباط – فبراير 1984 عندما بدأت بيروت كلّها ومنطقة رأس بيروت وشارع الحمرا، بالذات، تتغيّر كلّياً وبشكل جذري. لم يعد هناك صحافيون أجانب في فندق “كومودور”، ولم يعد هناك أساتذة أميركيون وأوروبيون في الجامعة الأميركية… التي استُهدفت باكراً عندما خُطف رئيسها ديفيد دودج صيف العام 1982، ونُقل إلى سجن في طهران. تلا ذلك اغتيال رئيس آخر للجامعة هو ملكوم كير قبل أيّام من “انتفاضة” السادس من شباط 1984.
في السادس من شباط 1984، أخرجت ميليشيات من أنواع مختلفة، بينها “أمل” و”الحزب الاشتراكي”، الجيش اللبناني من بيروت الغربية كلها، وأعادت خطوط التماس التي كانت قائمة في حرب السنتين.
في ذلك اليوم بالذات، بدأ التحوّل الكبير، بما في ذلك الموت البطيء لشارع الحمرا والأماكن القريبة منه. بعد السادس من شباط 1984، بوشرت عملية تهجير واسعة للمسيحيين من المنطقة، ثمّ لمجموعات صغيرة كانت جزءاً لا يتجزّأ منها، بما في ذلك الأرمن والفلسطينيون المسيحيون. لوحق لاحقا ما بقي من يهود لبنانيين في بيروت. هناك عائلة فلسطينية مسيحية ما زال أفرادها مختفين إلى الآن… مع كلبهم!
ما بدأ بما سمّي “انتفاضة” على عهد الرئيس أمين الجميّل وعلى وجود الجيش اللبناني في بيروت الغربية، أصبح في وقت لاحق عملية ممنهجة ومدروسة هدفها تغيير طبيعة تلك المنطقة وتركيبتها الديموغرافية انطلاقاً من تهجير الاقلّيات وأخذ مكانها، أكان ذلك في حي الوتوات أو زقاق البلاط أو القنطاري أو رأس بيروت تفادياً للاصطدام المباشر بالسنّة. على الرغم من ذلك كلّه، بقي الـ”بريستول” على رجليه. بقي واحة في منطقة صارت قاحلة. لم تستعد بيروت كلّها حيويتها الّا بعد تولّي رفيق الحريري موقع رئيس مجلس الوزراء في العام 1992. كانت تلك مرحلة الأمل التي بات علينا نسيانها واعتبار أنّها لم تكن…
أين الأيّام التي كان فيها في الـ”بريستول” أول حلبة تزلج على الجليد في الشرق الأوسط؟ أين الأيّام التي كان شاه إيران ينزل في الـ”بريستول”؟
لم يكن في رأس بيروت بفنادقها الكثيرة سوى فندق واحد ينافس الـ”بريستول” من ناحية الفخامة والخدمات. كان أيضا فندقاً عائلياً كما كان أصحابه آل مدوّر موارنة من كسروان. لأسباب مختلفة، لم يتمكّن فندق “كارلتون” من الصمود، خصوصاً بعدما جاء من يرتكب جريمة قتل طاولت موظفين مسيحيين فيه.
في المقابل، تجاوز الـ”بريستول” المحنة تلو الأخرى… إلى أن حلّ “العهد القوي” ووباء كورونا وانهيار المصارف. ما لم يستطع “حزب الله” من تحقيقه في ثمانينيات القرن الماضي عندما تبيّن أنّه استطاع تجيير “انتفاضة 6 شباط” لخدمة أهدافه، تحقّق في أيّام “العهد القوي” حيث يجد لبنان نفسه معزولاً عربيّاً ودولياً أكثر من أيّ وقت في ظلّ أزمة اقتصادية لم يشهد مثلها في تاريخه. أين الأيّام التي كان فيها في الـ”بريستول” أول حلبة تزلج على الجليد في الشرق الأوسط؟ أين الأيّام التي كان شاه إيران ينزل في الـ”بريستول”؟
تحقّق انتصار آخر على لبنان. أخذ “حزب الله” كلّ وقته من أجل الوصول بلبنان إلى الوضع الراهن. لم يبق من رأس بيروت، كما يقول صديقي نجيب خزّاقة، سوى الجامعة الأميركية ومستشفاها. لعلّ أخطر ما في الأمر أنّ إقفال الـ”بريستول” يقضي على طموح كلّ عائلة لبنانية في الاستثمار في لبنان، والبقاء فيه، وربط مستقبل أبنائها بالبلد. ما حلّ بالـ” بريستول” يجعل من الصعب التفكير في مستقبل للبلد حيث “العهد القوي” الذي يريد استعادة حقوق المسيحيين… فلم يترك لهم سوى حقّ الهجرة، هذا إذا تمكنوا من ذلك!