يعرف الرئيس نبيه بري التوازنات اللبنانية بدقّتها. معرفة تجعله دائماً في مواجهة من يسعى إلى الإخلال بالتوازن اللبناني الأزلي، الذي كلّما حاول طرف إخلال ميزانه انفجرت البلاد على موجة عنف وأزمات متتالية.
استشعر برّي باكراً محاولة حكومة الرئيس حسان دياب، المطواعة جداً بيد رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحرّ، قضم مواطن نفوذ قوى سياسية أساسية ومؤثرة في المعادلة. كان رئيس المجلس يعرف أنّ المضيّ بهذا السيناريو المحضّر، سيؤدي إلى انفجار عاجلاً أم آجلاً، لذلك حاول اتخاذ مواقف اعتراضية في أكثر من مرّة.
كانت آخر مواقفه الاعتراضية تأنيب الحكومة ورئيسها في الجلسة التشريعية يوم الأربعاء. اضطر برّي إلى إصدار بيان يرفض طريقة الإملاء على المجلس ما يجب فعله. خلفية البيان هو ما يعتبره برّي انصياعاً كاملاً من قبل دياب لجبران باسيل وأفكاره وطموحاته.
إقرأ أيضاً: لاعب البلياردو نبيه برّي: نبوءة شمعون.. وعقدة العهد
حاول برّي أكثر من مرّة الحفاظ على التوازن، والعمل مع دياب للتخفيف من جموحه نحو باسيل وعون. عندما أمّن رئيس حركة أمل نصاب جلسة الثقة للحكومة، كان ذلك مقابل تعهّدات قدّمها لوليد جنبلاط وسعد الحريري والقوات اللبنانية، بعدم تكرار ممارسة الحقبة اللحودية. لم ينجح برّي بذلك، ما دفعه إلى رفع صوته بوجه الحكومة أكثر من مرّة.
من يعرف برّي، يعي أن المختمر بالسياسة لا يمكن له أن يتلاءم مع حكومة من طينة حسان دياب وراوول نعمة وزينة عدرا. هو مولع بالسياسة، والهواء الذي يتنفسه اللبنانيون فيه سياسة. البيئة تقوم على السياسة، وأي كلام بخلاف ذلك يكون جاهلاً بالنسبة إليه. حتّى الرمق الأخير تمسكّ برّي بحكومة تكنو سياسية برئاسة الحريري، سعى جاهداً لمشاركة وليد جنبلاط والقوات اللبنانية فيها. لم ينجح. لا يزال بري يفضّل عودة الحريري لاعتبارات عديدة، رئيس تيار المستقبل، وما يمثّله سنياً، لم يخطئ يوماً في الحسابات معه أو مع حزب الله، ولم يلجأ إلى الإخلال بالتوازنات التي يرفضها جمهوره. ظنّه أنّ بقاء الحريري يبقى شيء من التوازن، ونتجنّب الذهاب إلى سياسة كسر عظم مع نصف اللبنانيين ومع الغرب.
لبنان سيخرج من التكنوقراط، ويعود إلى السياسة بنظر برّي. وفي الأساس لم تعقد هذه الحكومة منذ ولادتها إلى اليوم أيّ قرار له علاقة بالتكنوقراط إنّما كلّه يرتبط بالسياسة. سياسة يخوضها برّي حتّى النهاية ضد العهد، ليظهر كأنّه الساعي إلى إسقاط هذه الحكومة، وإعادة تشكيل حكومة جديدة، ربما يعود الحريري على رأسها.
اصطدم برّي بفيتو من رئيس الجمهورية ميشال عون، وبتمسّك متشدّد من قبل حزب الله بحكومة حسّان دياب. في الصراع المستمّر بين العهد وبرّي، سعى باسيل إلى تصوير رئيس المجلس بأنّه الساعي إلى إسقاط الحكومة، والطامح لإعادة الاعتبار إلى المعادلة القديمة التي لا تتلاقى مع الشارع و17 تشرين. صوّر باسيل، عبر حملة إعلامية وشعبية، أنّ برّي يسعى لإسقاط حكومة دياب ليعيد إنتاج سلطة تقليدية تضم الحريري وجنبلاط وجعجع. بدأ الضرب تحت الحزام. فأرسل برّي إلى دياب معاونه السياسي علي حسن خليل، لتبديد كل الهواجس، وتوضيح موقفه بأنّه لا يريد إسقاط الحكومة.
موقف الوزير الأميركي دفع خصوم الولايات المتحدة إلى الشارع لاستخدامه والسيطرة عليه استباقاً لأيّ انفجار قد يحصل، وسيعاً لتصويبه نحو المصرف المركزي والمصارف، في لعبة الصراع المستمرة
يعرف برّي أنّ عمر حكومة حسان دياب سيكون قصيراً. ما بعد الحكومة سيكون هناك احتمالان، إما أن يسعى من يوجّهها إلى الإمساك بكل مفاصيل لبنان السياسية والمالية، وداخل إدارات الدولة. وهذا المشروع لا بدّ من مواجهته بشكل حتمي. والإحتمال الثاني أن تشكّل الحكومة مطية لإعادة إنتاج التركيبة السياسية السابقة للحكومات. وبكلتا الحالتين، يتوجّب على برّي الصمود، واستخدام كلّ أوراق القوّة لحماية التوازنات.
المشكلة السياسية ستتوسّع. لن تقتصر على الصالونات السياسية. بدأت تباشيرها في الشارع. موقف وزير الخارجية الأميركي قرأه اللبنانيون بعناية جداً، خلاصته أنّ الحكومة لا يمكن أن تستمرّ طالما أنّها لم تقم بأيّ إصلاح مطلوب، ولم تلبّ متطلّبات الشعب اللبناني. موقف الوزير الأميركي دفع خصوم الولايات المتحدة إلى الشارع لاستخدامه والسيطرة عليه استباقاً لأيّ انفجار قد يحصل، وسيعاً لتصويبه نحو المصرف المركزي والمصارف، في لعبة الصراع المستمرة. اللجوء الاستباقي إلى الشارع، يهدف إلى الضغط على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي يعتبره حزب الله مسيّراً من قبل الأميركيين، ويكون الردّ عليهم من خلال تطويقه والتحضير لفتح ملفات له.
الخلاصة: المعركة مستمرة، وطويلة، ومحفوفة بالمخاطر، وجزء من معركة برّي هي الدفاع عن نفسه استباقياً، بوجه تغوّل عون وباسيل، وإذا اضطرّ إلى حماية رياض سلامة.