ليز سلاي Liz Sly (الواشنطن بوست – 22 نيسان)
سجّل لبنان أول إصابة بفيروس كورونا في 21 شباط الفائت. بعد ثمانية أيام من تلك الحادثة، أُقفلت المدارس، وتبعها فوراً إقفال الحانات والمطاعم، ثم المطار. ومع الوقت، أعلنت الحكومة إقفالاً شاملاً في 15 آذار، تزامناً مع حالة ذعر ذاتي من قبل المواطنين.
كان أمراً مفزعاً. عدد قليل من البلدان في العالم، ما عدا مناطق في إيطاليا والصين، اعتمدت مثل تلك الخطوات الصارمة في وقت مبكّر مثل لبنان. في الولايات المتحدة، كان الرئيس ترامب ما زال يقلّل من مخاطر الفيروس ويقاوم فرض القيود.
إذاً لماذا كان لبنان استثناءً؟
تحدثتُ بقلق مع أطباء وخبراء في مجال الصحة بحثاً عن إجابات. كان الأفق بائساً.
أفضل الحالات المتوقّعة، استناداً إلى نماذج تطوّر الإصابات في الصين، كانت تتنبّأ بعشرات آلاف الإصابات في لبنان. في حين أنّه لم يكن في لبنان سوى 128 سريراً استشفائياً، و7 وحدات للعناية المركّزة في كلّ لبنان لمرضى الكورونا.
طلب مني مسؤول كبير في منظمة صحية عالمية كبرى عدم نشر السيناريوهات الأسوأ. وتتضمن تلك السيناريوهات عدداً من الأصفار، وهو ما أخافني بشدة.
إقرأ أيضاً: 78 مشروع لقاح لكورونا حول العالم: السرعة قبل الضوابط
الآن، بعد شهرين، منذ الإصابة الأولى، سجّل لبنان 682 إصابة فقط بفيروس الكورونا، و22 وفاة. وهذا رقم بعيد جداً خلف النرويج (أو أمامها)، وهي التي يُنظر إليها على نطاق واسع، بأنها قامت بعمل جيد في السيطرة على انتشار الوباء. عدد سكان النرويج أقل بقليل من عدد سكان لبنان، (5.3 مليون نسمة بالمقارنة مع 6 ملايين نسمة في لبنان). وفي النرويج حتّى يوم أمس الأربعاء، أكثر من 7 آلاف إصابة بالفيروس، و187 وفاة.
بطريقة ما، نجح هذا البلد الغارق في الاضطراب، المترنّح على شفا الدمار الاقتصادي والفوضى السياسية، في تحقيق إنجاز كبير في مواجهة أزمة كورونا.
“إنه أمر رائع”، كما يقول سامر صعب، عميد قسم دراسات التخرّج والبحوث في الجامعة اللبنانية الأميركية. صعب نشر دراسة أوائل آذار، توقّع فيها أن يُصاب 13.217 شخصاً بالفيروس، وأن يموت 454 بينهم، بحلول الصيف، حتّى وفق أفضل سيناريوهات التباعد الاجتماعي. ومن دون فرض حالة الإغلاق، تنبّأت الدراسة بأن يُصاب 2.5 مليون شخص، وأن يموت 150 ألف شخص. لكن “لم يتوقّع أحد هذا العدد المنخفض جداً من الإصابات”، بحسب صعب.
المنحنى البياني لوباء كوفيد19 لم يتسطّح تماماً في لبنان، لكنّه ارتفع بلطافة كافية، سمحت بتوسيع قدرة المستشفيات على الاستيعاب، إلى حدّ توافر أسرّة أكثر من عدد المُصابين حالياً. ولم تُسجّل حالة وفاة منذ الأسبوع الماضي.
هناك أدوات فحص كافية لفحص كلّ مقيم لديه أعراض، فحصاً مجّانياً في المستشفيات الحكومية، وفحصاً مدفوعاً في المستشفيات الخاصة. وتصدر النتائج بعد 24 ساعة، أي بأقلّ مما ينتظر الأميركيون لتلقّي نتائجهم.
صغر مساحة لبنان هو عامل آخر من عوامل النجاح، ما يتيح التعقّب الفائق لمن تواصل مع المصاب. وكلّ الإصابات المبكرة تقريباً خضعت للتعقّب، الواصلين من أوروبا والواصلين من إيران
لا نقص في التجهيزات الوقائية للعاملين في القطاع الصحي. الأقنعة، والقفّازات، ومعقّم اليدين، متاحة على نطاق واسع، في المخازن، وتُستعمل أيضاً على نطاق واسع. بعض السوبرماركات وزّعت أقنعة مجاناً مزيّنة بشعارها الخاص.
أما خبراء الصحة فيُرجعون النجاح فوق كلّ ذلك، إلى الإغلاق السريع والمراقَبة الصارمة لقرار الإغلاق التام.
وعلى سبيل المقارنة: فإن مقاطعة كوك (Cook) في ولاية إلينوي، التي تضمّ مدينة شيكاغو، ولديها عدد أقلّ من السكان (5.1 مليون نسمة) بالمقارنة مع لبنان، سجّلت أول إصابة بفيروس كورونا في 24 كانون الثاني، أي قبل شهر تقريباً من لبنان. أغلقت ولاية إلينوي المدارس في 13 آذار، أي بعد أسبوعين من لبنان. وطلبت من السكان البقاء في المنازل في 20 آذار، أي بعد خمسة أيام بعد قرار لبنان بالإغلاق. وحتّى الأربعاء الماضي، بلغ عدد الإصابات في مقاطعة كوك 24.546 شخصاً، وبلغ عدد الوفيات 1.072.
وللمفارقة، فإنّ عدم الثقة بالإدارة الحكومية قد يكون عاملاً مساعداً، كما يقول ناصر ياسين، مدير البحوث في الجامعة الأميركية في بيروت – معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية”: “بالنظر إلى النظام الصحي وكيفية إدارة الحكومة، فلا يمكنك الثقة بقدرتها على التغلّب على الأزمة”. وبعكس ما حدث في بعض البلدان الأكثر تعرّضاً بالوباء، فلم يتجاهل أحد من كبار السياسيين هذا الوباء ولا قلّل من أخطاره.
“في لبنان، كلّ الناس ارتعبت منذ اليوم الأول”، تقول سهى كنج، التي ترأس قسم الأوبئة المُعدية في المركز الطبي التابع للجامعة الأميركية في بيروت: “بطريقة ما، من الجيد أن تخاف وأن ترتعب، لأن هذا ما يفرض عليك أن تكون أكثر انتباهاً”.
وصغر مساحة لبنان هو عامل آخر من عوامل النجاح، ما يتيح التعقّب الفائق لمن تواصل مع المصاب. وكلّ الإصابات المبكرة تقريباً خضعت للتعقّب، الواصلين من أوروبا والواصلين من إيران، ومهما تكن إصاباتهم متوسطة، فقد عُزلوا في مستشفى رفيق الحريري الجامعي، المشفى الحكومي الرئيسي، المكلّف بإدارة الوباء، كما يقول فراس أبيض، المدير العام للمستشفى.
الآن، أمام الحالات المتوسطة الخيار، فإما الاستشفاء أو العزل المنزلي. وقد اختار كثير من المرضى الأكثر فقراً تلقّي العلاج في المستشفى لأنّه مجاني، وهم يقطنون في منازل مزدحمة. وهذا ما أسهم في الاحتواء، كما يقول أبيض.
ومن العوامل المساعدة أيضاً، أن الشعب اللبناني فتيّ نسبياً، كما تقول كريستال موصلي، المختصة الإقليمية في علم الأوبئة، في الوكالة الدولية لتقديم العون، “أطباء بلا حدود”، التي توقّعت في آذار الماضي 630 ألف إصابة في لبنان، بناءً على المعلومات المتاحة في ذلك الوقت.
من المؤكد أنّ هناك حالات إصابة غير معلن عنها، ومن ضمنها مصابون من دون أعراض ظاهرة، كما هو الحال في البلدان الأخرى حول العالم. وتحوم شكوك حول العدد المنخفض من الإصابات المعلن عنها في جنوب لبنان، المسيطر عليه من قبل حزب الله، بالمقارنة مع الإصابات في بقية المناطق.
حزب الله يدير نظامه الصحي الخاصّ وقد لا يبلّغ عن كلّ الإصابات التي يتحقّق منها هناك. لكن لا يبدو أن هناك أعداداً ذات اعتبار من الوفيات غير المبلّغ عنها، أو الحالات الخطرة، كما تقول كنج. فالأطباء في لبنان يتواصلون يومياً، وأيّ ارتفاع مفاجئ في الوفيات من الصعب إخفاؤه، في بلد بحجم لبنان. ففي بلد صغير مثل لبنان، يمكنك أن تسمع أيّ خبر مشابه إذا رُصدت حالات وفيات فوق المعدّل المتوقّع.
لبنان ليس بعيداً عن الخطر بعد. والتجربة الأخيرة في سنغافورة تدعو إلى التحفّظ، كما يقول أبيض. فحتّى الأسبوع الماضي، كانت سنغافورة التي سكانها أقل قليلاً من سكان لبنان (5.1 مليون نسمة)، قد سجّلت عدداً أقل من الإصابات بالمقارنة مع لبنان. لكنّ عدد الإصابات في سنغافورة قفز منذ ذلك الحين عشرة أضعاف، مع أكثر من 8 آلاف إصابة جديدة في الأيام الأخيرة بعدما ضرب الكورونا متأخراً أماكن النوم الضيقة حيث يعيش العمّال المهاجرون. وفقدت سنغافورة السيطرة على انتشار الكورونا والمهاجرون العمال هم الضحايا.
قد يشهد لبنان طفرة مماثلة إذا انتشر كوفيد19 في مخيمات اللاجئين، كما يقول أبيض. فثمة مليون ونصف المليون تقريباً من المقيمين السوريين والفلسطينيين، وهم يعيشون في مخيمات كثيفة وفي أماكن غير رسمية.
لقد تأكدت أول إصابة بكورونا يوم الثلاثاء الماضي، في مخيم ويفل شرقي لبنان. وذهبت الفرق الطبية إلى المخيم للفحص وعزل المتواصلين مع المرأة المصابة، بحسب أبيض: “هنا في لبنان، الكابوس أن يصل الوباء إلى المخيمات المزدحمة باللاجئين”.
في الأثناء، تعب اللبنانيون من البقاء في المنازل، فالطقس بهيّ، والاقتصاد مخيف. وبدأ الناس يخرجون، من أجل العمل، والتواصل الاجتماعي. واستؤنفت الاحتجاجات ضدّ القادة السياسيين، في إشارة إلى الإحباط المتصاعد.
يحذّر فراس أبيض من أن موجة ثانية للوباء تبدو حتمية في الأشهر المقبلة. لكن الآن، لدى اللبنانيين “مفاجأة سعيدة” في كيفية التعامل مع أزمة كورونا، كما تقول كنج. فلا شيء غيره يمضي على نحوٍ سليم، لكن في جبهة كورونا: “ثمة شيء يعمل جيداً كما يبدو”.