ما كان لـ”فتى التكنوقراط الأغرّ” البروفيسور حسّان دياب أن يحلم برئاسة مجلس الوزراء لولا انتفاضة 17 تشرين، تلك التي احتاجت حكومته لقمع شبابها، وكسر الجدار البشريّ الملتف حول جلسة نيلها الثقة، لأجل نيل ثقة ما يفترض به أن يكون مصفاة برلمانية للإرادة الشعبية.
بالنسبة إلى الظاهرة دياب، الختم على الانتفاضة، وتجسيده لجوهرها، أمران يتكاملان. كيف لا، وهو يمثّل التجسيد الأمضى لشعار “حكومة تكنوقراطية بصلاحيات تشريعيّة”، هذا الشعار الذي اجتاح الانتفاضة، في أسابيع التبنّي التلفزيوني لها، والذي حاول أن يستثمره لمصلحته الرئيس سعد الحريري بمعادلة “حكومة تكنوقراطية برئيس غير تكنوقراطي” ففشل، فصحت الانتفاضة على تشكّل حكومة تكنوقراطية بالفعل، بل ذات شهوة بونابرتية يكاد يعبّر عن مكنونها رئيسها بما ترجمته “أنا منطق الدولة – أنا دولة المنطق”. إنما حكومة تكنوقراطية من ضمن اللاتوازنات القابضة على التركيبة النظامية في لبنان. وليس أقلّه اللاتوازن الذي تفرضه معادلات غلبة “حزب الله” من ناحية، ومعادلات تمركز الاقتصاد اللبناني حول القطاع المصرفي من ناحية ثانية، وتنامي دور حاكمية المصرف المركزيّ بشكل أبعد ما يكون عن ديناميات اقتصاد السوق، وأقرب ما يكون إلى نموذج “رأسمالية الدولة”، إنما رأسمالية الدولة غير الاجتماعية البتّة، رأسمالية الدولة الأوليغارشية بامتياز، من ناحية أخرى.
إقرأ أيضاً: أوساط دياب: أمر عمليات خارجي للإطاحة بالحكومة
يضاف إلى ذلك، أنّ رأسمالية الدولة هذه، هي بقطاع عام منتفخ، ليس لأنّها دولة تنتهج مسلكاً اجتماعياً هو معنيّ بالتربية للجميع، والصحّة والطبابة للجميع، والطاقة والمياه للجميع، بل العكس تماماً، لأنّها دولة أولوية التعليم الخاص على العام، والمستشفيات الخاصة على تلك الحكومية، والهدر اللامحدود واللامعقول في قطاع الكهرباء، وهي في الوقت نفسه، وبالتقاطع مع كلّ هذا، دولة المحاصصة بين الحزبيات الطائفية، الأوليغارشية من فوق والشعبية من تحت، والتي يؤمّن التوظيف العمومي بعضاً مما يقتطعه الذين فوق للآتين من تحت.. على حساب الدولة!
الاختبار الذي اسمه حسّان دياب دليل على أنّ “حكومة تكنوقراطية” كان يمكنها أن تقوم بالفعل في البلد، وليست شعاراً خيالياً، لكنها يمكنها أن تتعايش وتتكامل مع كلّ عناصر اللاتوازن القائمة في المجتمع والدولة. في الوقت نفسه، توفّر الطبيعة التكنوقراطية لدياب فرصة لاستمرار الإعتقاد بأنّه “جوهر الدولة” التي كان خارجها منذ زمن بعيد، وغريب في نفس الوقت عن نظام الحكم وعلاقات الحكم التي تسيّدت على هذه الدولة منذ نهاية الحرب. وهكذا لم يتردّد الرجل في القول حين إقلاع حكومته بأنّ الأخيرة بصدد إنتاج “حلول بأقل من 30 يوماً لأزمة عمرها 30 سنة”، ولم يتردّد مؤخراً في زجّ كل الانتقادات لخطته الاقتصادية في خانة “الاستنفار السياسي أو الطبقي أو الطائفي أو المذهبي ضدّ عدو غير موجود”. عدو غير موجود لأنّه في منطق التكنوقراط، في منطق دياب، هو كائن غير موجود ضمن معادلات النظام، لكنه كيان الدولة نفسها. “الأنا” عنده مجاوزة لنفسها ليس فقط في “النحن”، بل في ترفّع الدولة نفسها فوق النحن وفوق الأنا!
ما كان لدياب أن يحلم برئاسة مجلس الوزراء لولا 17 تشرين، وأكثر من شارك في 17 تشرين سيشعر بالاستفزاز جرّاء هكذا صياغة. فالرجل ليس ما به حلموا، حتى وقت تماشى قسم كبير منهم مع شعار “حكومة التكنوقراط” أو سوّق له. كانوا يحلمون بتكنوقراطي آخر. تكنوقراطي يزعزع شيئاً من عناصر وعلاقات اللاتوازن الآنفة الذكر، وشيئاً من اللاتوازن المكثّف في مقولة، لا مستقرَّ نصيّاً دستوريّاً لها، هي “العهد”. فحصل العكس.
في المقابل، هناك، جهاراً أو ضمنياً، من يستدلّ في انتماء دياب وأغلب أعضاء حكومته إلى “الطبقة الوسطى”، وبعض الأفكار المتداولة في هذه الحكومة التي سبّبت الانقباض لأرباب المصارف، إلى نواة حساسية اجتماعية ما يمكنهم التقاطع معها. والمجاهرة هنا تصير أوضح كلّما أوغلنا في مناخات 8 آذار .. وغنيّ عن البيان أنّ انتفاضة 17 تشرين شاركت بها بوتائر مختلفة، وفي أوقات مختلفة، مناخات “لا 14 ولا 8″، ومناخات “ما بعد 14 وما بعد 8”.. لكن أيضاً مناخات “14 مضمرة أو مجاهرة و8 آذار مضمرة أو مجاهرة”.
والحال أنّنا أمام رابع حكومة “ذات سمة برجوازية صغيرة” في تاريخ لبنان بعد الحرب. بعد حكومة عمر كرامي التي أطاح بها انهيار العملة والانفجار الشعبي في 7 أيار 1992، وحكومة سليم الحص 1998-2000، وحكومة عمر كرامي 2004-2005 التي استقالت تحت تداعيات اغتيال الرئيس رفيق الحريري. أي أنّنا بالفعل حيال حكومة ينتابها توتّر ما مع رأس المال الكبير، توتّر غير ثابت وضمن حدود معيّنة… والأهم: تناقض غير مدرك لشروطه. تناقض ينفي نفسه ولا ينشرح لنفي الآخرين له.
مصير الحكومات “ذات السمة البرجوازية الصغيرة” بعد الحرب كان “مكرّراً”: شبه تمرّد على رأس المال الكبير وعلى الأوليغارشية المالية، يتكىء على نظام وصاية أو نظام أمني تابع للوصاية معنيّ في المقابل بـ”التغذّي” من الأوليغارشية نفسها. وفي كلّ مرة كان هذا النوع من الحكومات يسقط بدوي شعبيّ – عاميّ أو شعبي – انتخابي، وتعيد فيه البرجوازية الصغرى الأهلية قبل سواها مبايعة الأوليغارشية، طالما أنّ الأخيرة ترفع شعار إعادة تحريك عجلة الاقتصاد واستئناف النمو، وبمستطاعها السير على هذا السبيل، مهما كانت فداحة ذلك بالنسبة إلى طبيعة هذا النمو نفسه، وإنتاجيته من عدمها، واجتماعيته من عدمها، واستدامته من عدمها.
الفارق هذه المرّة، أنّ الدويّ الشعبي سبق تشكّل الحكومة، وجاءت الحكومة كنتاج مشوّه له، وأنّ الأوليغارشية نفسها هي التي وصلت بها السبيل، وفي نطاق تعايشها الحكومي مع الممانعة، بشروط الممانعة، إلى سنوات مريرة من “الصفر نموّ”. هذا في مقابل إيثار سياسات هندسية مالية كارثية للمحافظة على أرباح المصارف والفوائد العالية للمودعين، رغم “الصفر نمو”، وهو المتسبّب بشكل مباشر بالكارثة الحالية ببعدها المباشر. كما أنّ تزامن ذلك، في الفترة نفسها، مع الزيادات على أجور القطاع العام، يمنح الفرصة، لـ”اليمين الاقتصاديّ” في البلد لاختزال المشكلة في “سلسلة الرتب والرواتب”. لكنّه يورّط أخصام هذا اليمين الاقتصادي في المقابل بتصنيم لفكرة القطاع العام، كما لو كان “القطاع العام في جوهره” قائماً في فضاء، و”القطاع العام في تمظهر اللبناني” قائماً في فضاء موازٍ، وكأنّ المطلوب فقط تشذيب صورة الثاني للعودة إلى بهاء الصورة الأولى.
هذا القطاع العام المنتفخ بهذا الشكل، في دولة غير اجتماعية بالمرّة، هو البنية التحتية لرأسمالية الدولة الأوليغارشية وليس العكس. في المقابل، تجاوز هذا القطاع العام، المنتفخ بالمحاصصة وغير الاجتماعي، إلى قطاع عام فاعل واجتماعي ومنتج في دولة اجتماعية، يكون بتنمية الفضاءات المختلطة بين القطاعات العامة والخاصة… وتلك التشاركية أو التعاونية، التي يمكن أن تبعثها اللامركزية الاجتماعية الشاملة وحدها. أي تفكير بـ”ترشيق” القطاع العام على قاعدة تسريح الموظفين وزجّ عشرات الآلاف منهم في البطالة، سيكون كارثة اجتماعية أكثر من أيّ كارثة سابقة. “الترشيق” المتناغم مع ابتغاء التشغيل الكامل للقوى العاملة في المجتمع اللبناني هو المدخل الأساسي لمقاربة مشكلة القطاع العام. واستطراداً، فإنّ أيّ خطة اقتصادية لا يكون تشغيل القوى العاملة الأوسع في صلبها، هي خطة محكومة بالسير قدماً في المسار الكارثي.
الحقّ أن الحالمين بمثل هذه الجمهورية الاجتماعية، بصرف النظر عن توصيفاتهم لحلمهم هذا، والاختلاف في المرجعية الأيديولوجية وفي التاكتيك السياسي فيما بينهم، ليسوا قلّة وليسوا كثيرين. لكنهم موجودون
هذا أكثر من غائب عن خطط الحكومة الحالية، التي بعد أن نادت بمعزوفة “الإنتاجية” دخلت بعد أسبوع واحد في معزوفة إبطال كلّ إنتاجية لمواجهة فيروس الكورونا. الأسئلة المفتاحية الثلاث للإنقاذ الإقتصادي غائبة عن هذه الحكومة. ماذا يعمل اللبنانيون الآن، وما هي آفاق “تعميلهم” أكثر في مدى منظور؟ من أين يأتي البلد بالمال من الآن وصاعداً، ما هي الشروط السانحة لإعادة مراكمته رأسَ مال؟ وثالثاً، والأكثر إلحاحية، إنما الذي لا ينعزل لوحده كسؤال: من سيدفع فاتورة الانهيار الحاصل، الأغنى أم الأفقر في هذا البلد؟ نموذج الدولة الحالي، أو إمكان نموذج دولة اجتماعية ومتوازنة في المستقبل؟
تؤسّس الحكومة الحالية، عاجلاً أم آجلاً، لانقلاب أوليغارشي عليها مدعوم بالقوّة الشعبية، رغم تزنّرها هي بقوّة معادلات الأمر الواقع. ويفرض هذا أعباءً إضافية على من يحلمون بالخروج من هذا التكرار في تاريخ الجمهورية الثانية، وبالخروج من الجمهورية الثانية تماماً إلى جمهورية اجتماعية محورها تشغيل أكبر نسبة ممكنة من القوى العاملة بشروط مقبولة مالياً وقانونياً وبيئياً وثقافياً، وتحديد العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية للبلد ككلّ مع الخارج وفقاً لمعايير المصلحة والمنفعة للقوى العاملة اللبنانية.
والحقّ أن الحالمين بمثل هذه الجمهورية الاجتماعية، بصرف النظر عن توصيفاتهم لحلمهم هذا، والاختلاف في المرجعية الأيديولوجية وفي التاكتيك السياسي فيما بينهم، ليسوا قلّة وليسوا كثيرين. لكنهم موجودون. يعزّزون وجودهم بمقدار الوصل بين مقاربة اجتماعية شعبية، ذات عمق طبقي واضح، على خلفية الإجابة على سؤال من يدفع فاتورة الانهيار، وبين أفق واقع وشامل للخروج من الانهيار، مبنيّ على مزدوجة إعادة تشغيل الناس وإعادة إدخال فلوس للبلد.
العدالة الاجتماعية المتشابكة مع أفق استئناف النمو، لا المكابرة عليه. لكن استئناف النمو غير ممكن من دون الخروج سواء بسواء من “الكربجة” التي يفرضها تمنّع الأوليغارشية عن دفع ما عليها أن تدفعه، ومن دون شيء من الاعتدال في معشر من يريد محاربة الإمبريالية مع المحافظة على بنية اجتماعية “كولونيالية” بامتياز، اذا ما استعدنا توصيف مهدي عامل.
من دون بلورة خط العدالة الاجتماعية المتشابكة مع أفق استئناف النمو، والمتطلّعة إلى هجران الجمهورية الثانية نحو ثالثة اجتماعية ولامركزية، فإنّ الأمور ماضية إلى المزيد من التصدّع، والترنّح. وإذا كان هناك سذاجة تجوب العالم بأنّ الكورونا تزفّ نهاية الرأسمالية (وإن كان صحيحاً أنّها تكشف تناقضاتها بشكل غير مسبوق)، فإنّ من العته اعتبار الكورونا موسم هدنة بين الطبقات، أو هدنة اجتماعية، أو هدنة سياسية.
لقد تزامن نجاح البلد، حتّى الساعة، في عرقلة حركة الفيروس، مع تسعير حرب اجتماعية على عامة الناس، محدودي ومتوسطي الدخل، بالتقاطع مع زيادة النقمة المتبادلة بين المصارف وبين حزب الله، والتوتّر بين دياب وبين جنبلاط أو الحريري. هذا التوتر المحدود للحكومة الحالية مع الأوليغارشية المالية، في مقابل هذا الاتحاد للأوليغارشية المالية وللحكومة الحالية، في مسار الحرب الاجتماعية على عامة الناس، يؤسسان لـ”تكرار” الجمهورية الثانية: حكومات ذات صبغة برجوازية صغيرة تؤسّس للانقلاب عليها من أوليغارشية مدعومة بالطاقة الشعبية. الإفلات من هذا “التكرار” مشروط ببلورة البديل الإجتماعي، غير المتحرّج من طرح ثلاثية تعميل الناس (إعادة تشغيل القوى العاملة)، إعادة ادخال فلوس للبلد، وتوزّع اجتماعي لفاتورة الانهيار، في وقت واحد. بديل كهذا شرطه الأوّل مغادرة كلّ وهم “تكنوقراطي”.