دياب يرث الحريري في تنازلاته…

مدة القراءة 6 د


سعد الحريري ممتعض من أداء الحكومة. يقول في آخر مواقفه: إن فترة السماح التي منحها إياها لا تعني بأيّ شكل من الأشكال السماح لها ولمن يقف خلفها بتغيير طبيعة نظامنا الاقتصادي ووضع اليد على جنى أعمار الناس.

لنعدْ سويًا إلى البدايات. حين عُرضت الأسماء المرشحة لتولّي رئاسة الحكومة، أعطى سعد الحريري ما يشبه الضوء الأصفر للسير بحسان دياب بعد لقاء معه بوساطة من صديق مشترك ، متعهّدًا بعدم التحريض عليه، وهو فعل ذلك انطلاقًا من اعتبارات متعدّدة، ليس أقلّها عدم تمتع الرجل بأيّ حيثية سياسية أو شعبية تُتيح له المناورة أو التمسّك بموقعه، ناهيك عن انتفاضة اللبنانيين العارمة التي لا بدّ أن تُطيح به سريعًا، ليأتي بعدها سعد الحريري على فرس أبيض، وكأنّه الشخص الوحيد القادر على إدارة الأزمة. هذا قبل أن يبلغه السيد نصرالله في خطاب علني أنّ لا خيل أبيض ولا عودة.

الغالب أنّ سعد الحريري، وكوكبة اللصيقين به، استندوا في قراءتهم تلك إلى مجموعة من العوامل، وهي قد تبدأ بالتجربة الرمادية لحسان دياب في حكومة نجيب ميقاتي، التي تحوّلت لاحقًا إلى مادة للسخرية والتهكّم لدى الغالبية الغالبة من اللبنانيين، لا سيما بعد استعادة كتاب إنجازته الذي يعجّ بما تيسّر من الشوفينية والأنا المتورّمة. 

إقرأ أيضاً: دياب أشهرَ “أنتي حريريته”؟

يُضاف إلى ما تقدّم، حضور شخصيات وأسماء جديدة من قماشة نوّاف سلام، وهذه القماشة مثيرة للقلق. إذ إنّها استطاعت بعد ساعات قليلة جدًا على طرح اسمها أن تحصد موجة هائلة من الترحيب والدعم، وهذا ما انعكس فورًا على الجمهور السيادي الأوسع الذي يُشكّل العصب الأساسي والحيوي لمركزية القضية التي حملتها 14 آذار. وانعكس أيضًا على طيف كبير من جماهير الثورة التي تعاطت مع اسمه باعتباره شخصية متميّزة وناجحة وتتمتع بالحدّ الأقصى من الاستقلالية والنزاهة، معطوفة على الخبرة السياسية والعلاقات الدولية.

وهنا تمامًا تكمن المشكلة: العلاقات الدولية. حيث إنّ نوّاف سلام قادر على تطويع هذه العلاقات وتسخيرها لمصلحة حكومته وبلده، وبالتالي كان لا بدّ لسعد الحريري أن يعمل على إخراجه من المشهد بدليل عدم تسميته ولو مبدئياً في استشارات بعبدا كما فعل جنبلاط والمشنوق، فسبقه حزب الله إلى الرفض القاطع.

كان حسان دياب أفضل المتاح، وكان السيناريو المُعدّ يستند إلى تكثيف العراقيل بوجهه، أولاً عبر سحب الميثاقية السنية في استشارات التكليف في بعبدا، يليها عدم قدرة الرئيس المكلّف على التأليف نتيجة حساسيات سياسية ومذهبية مضافة إلى جشع القوى المؤيدة، ثم بأحسن الأحوال تعثّر الحصول على الثقة بعد توسّع هامش المعارضة النيابية وانفلاش الثورة في الشارع.

إلا أنّ السيناريو لم يتحقق إذ تداعى “الثوار” إلى التظاهر أمام منزل الرئيس المكلّف وكلّ منازل الوزراء المحتملين في حكومته الجديدة، بالإضافة إلى ضغوط كبرى مارسها تيار المستقبل على بعض المرشحين السنّة لمنعهم من المشاركة، بالتوازي مع إطلاق حركة حزبية منظّمة تتخذ طابع الرفض الشعبي في غالبية المناطق السنية، باعتبار ان الثورة موجّهة ضد سعد الحريري.

لم تؤتِ هذه الممارسات أُكلها، واستطاع حسان دياب بشقّ الأنفس، وبمساندة واضحة ومباشرة من حزب الله، أن يعبر المرحلة، وأن ينال ثقة، ولو هزيلة، في مجلس النواب.

انتقل سعد الحريري إلى السيناريو الآخر، وهو الرهان على حتمية فشل الحكومة في معالجة الأزمات الهائلة، والتي لامست حدود الانهيار الشامل، ما يعني سقوطها المدوّي خلال فترة قياسية، خصوصًا بعد أن اتخذت طابعًا لا نقاش فيه حول اللون السياسي الواحد، وحول الرعاة الحقيقيين لهذه التركيبة التي تفتقد إلى الخبرة والمعرفة والقدرة على مواجهة هذا النوع من الأزمات.

بدت الحكومة في انطلاقتها عاجزة ومتخبّطة ولا حول لها ولا قوة، وبدا أنّ قدرتها على الصمود لا تتجاوز أيامًا أو أسابيع، لكنّ طارئاً كونياً “كورونياً” أعاد ترتيب الأولويات في العالم برمّته، وفي لبنان أيضًا، الذي كان قاب قوسين أو أدنى من الانفجار بينما يرزح بأسره فوق صفيح مشتعل.

تنفّست الحكومة الصعداء. وانتقل سعد الحريري إلى آخر خياراته: المواجهة السياسية المباشرة. لكن فاته أنّ الناس باتت في مكان آخر، وأنّه ليس المؤهل ليوجّه انتقادًا أو يُطلق تهديدًا بانتهاء مهلة السماح لهذه الحكومة أو لمن يقف خلفها، على حدّ تعبيره.  

ولّى زمن القطاف يا دولة الرئيس. فاتك القطار وأنت لا تزال منتظرًا في محطاته الباردة. النصيحة أن تعود إلى نفسك لتراجعها وتحاسبها وتقف مليًا على ما اقترفته يداك

لا حاجة هنا لاستحضار تجربته في رئاسة الحكومة، ولا حاجة أيضًا لإعادة تذكيره بكلّ الاستحقاقات الأساسية، بدءًا من الأداء والصلاحيات المسفوكة التي ساوت الأرض، مرورًا بالتعيينات والتلزيمات والإصلاح الموعود، وصولاً إلى اندماجه الشامل والكامل مع جبران باسيل وحزب الله، وهما من يقف خلف الحكومة الحالية والتي انتقلت ولو بالتدريج الى حسّان دياب معتمداً على أسبقيّات الحريري .

يكفي أن نُذكّر الحريري بموقف وزير خارجيته آنذاك جبران باسيل، الذي قال قبل الثورة بأيام في خطاب على الملأ إنّه سيزور دمشق وسيلتقي المسؤولين فيها ليتحادث معهم، وهو متحدث رسمي باسم الحكومة اللبنانية، كما أكد سليم جريصاتي في توضيح لاحق. لكنّ سعد الحريري لم يجرؤ يومها على الرفض أو الاستنكار، وجلّ ما قاله في موزاة هذه الفضيحة قد يتجاوز الفضيحة نفسها: ليذهب إلى سوريا فهذا شأنه.

لا يا دولة الرئيس، لم يكن هذا شأنه يومها، بل شأنك أنت باعتبارك رئيسه المباشر ورئيس السلطة التنفيذية والمتحدّث الرسمي باسم الحكومة، لكنّنا لم نعاتبك يومذاك، على اعتبار أنّ الثورة وصلت، وهي وحدها القادرة على إعادة الأمور إلى نصابها.

الآن ثمة حكومة نعرفها ونعرف جيدًا من يقف خلفها، ونحن لن نتوانى للحظة عن تهشيمها وتعريتها وإسقاطها، لكن عليك أن تدرك تمام الإدراك أن ما مضى قد مضى.

ولّى زمن القطاف يا دولة الرئيس. فاتك القطار وأنت لا تزال منتظرًا في محطاته الباردة. النصيحة أن تعود إلى نفسك لتراجعها وتحاسبها وتقف مليًا على ما اقترفته يداك. ولا بأس هنا أن تتذكّر رفيق الحريري، ذاك الألمعي الذي جمع البسطاء من الأطراف المهمّشة وأودعهم أعظم جامعات العالم. هو أراد بذلك أن يُعلّمهم أساسات الرقيّ والحضارة والحوار، ليناقشوا من يتنافسون معهم بلغة المنطق والحكمة والترفّع، لا أن ينساقوا إلى الغوغاء والشعبويات والشتائم، على طريقة “الحمار”، آخر أوصاف تفليسة الحريرية السياسية.

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…