لحظة التسابق بين أزمات بلد وأزمات كوكب

مدة القراءة 7 د


حتى الساعة، ما زال فيروس كورونا “المستجد سابقاً” يتطوّر بشكل بطيء في لبنان، مقارنة بخارطة تفشّيه العالمية. هذا على رغم الاكتظاظ السكّاني الهائل في البلد.

الدور الأساسي في هذا يعود للناس، عامّة الناس، لأنّها تعي قبل أيّ شيء آخر حدود النظام الصحيّ والاستشفائي اللبنانيّ، وطبيعته اللا اجتماعية بامتياز، وهشاشته كلّما ابتعدنا عن “المركز” نحو الأطراف.

علماً أنناً في بلد، تنشب فيه “مدينة واسعة”، غير مُعرّفة، تمتدّ ساحلاً من طرابلس حتى صور، وتصعد جبلاً بشكل مدهش إلى المتنين وكسروان.

مع هذا الاكتظاظ، ومع هذه “المدينة الواسعة والمتمدّدة” جداً، التي تتخطّى التحديدات السابقة لـ”بيروت الكبرى”، إلى الافتقاد لبنية تحتية صناعية قويّة، ولسكة حديد وترامواي ومترو وباصات نقل مشترك وزوارق نقل الركاب من محطة بحرية إلى أخرى في هذه “المدينة الواسعة”، كلّ هذا لعب دوراً ايجابياً على صعيد تباطؤ تفشي فيروس كورونا، فكان إقفال المدارس والجامعات، زائد إقفال المطاعم، والمقاهي كفيلاً بانجاز اللازم.

ولا يلغي هذا دور وزير أو وزارة الصحّة الحيوي في الفترة الأخيرة، وبخاصة أنّه دور يوحي بأنه استطاع بلورة تصوّر شامل حول كيفية مواجهة وعرقلة حركة الفيروس.

إقرأ أيضاً: حمد حسن … درسٌ فائق الأهمية لحزب الله وجمهوره

يبقى أنّ المسافة شاسعة، بل مطلقة، بين امتلاك وزارة أو وزير الصحّة لتصوّر في هذا المجال، بالتقاطع مع وزارة الداخلية، على صعيد عرقلة حركة السكان بقصد عرقلة حركة الفيروس، وبين عدم امتلاك الحكومة ككلّ، والمنظومة الحاكمة اللبنانية الرسمية وغير الرسمية ككلّ، لأيّ تصوّر يتعلّق سواء بسواء، بكيفية مواجهة الكارثة الاقتصادية المالية السابقة على كورونا والمتأجّجة معها، والتحدّي الصحي المتمثّل بفيروس كورونا وتمدّده، في وقت واحد.

وحتى الآن، فإنّ انطباعاً قوياً للغاية يسود الرأي العام بأنّ المصارف وأحزاب “الجمهورية الثانية” كلّها، تتعامل مع الكورونا كما لو أنّه “في صفّها”، تستطيع استثماره “فوق طاقته”.

صحيح أنّ القومة الشعبية تراجعت حتى قبل ظهور موسم الكورونا، ويعود هذا إلى حدّ كبير لعدم وجود قوة قادرة على طرح المسألتين الطبقية والطائفية في وقت واحد، وبشكل متكامل، وتقديم منظار تجاوزي لـ”الجمهورية الثانية” نحو نموذج بديل، ليس فقط عن النظام السياسي الحالي، بل عن نموذج الدولة الطائفية المركزية المنحازة لكبار الأغنياء والتي تربط تسرّب الجزء الأقل من الثروة إلى الطبقات الشعبية بالتأطير الطوائفي للمنتمين إلى هذه الأخيرة. فالطائفية هي في نفس الوقت شكل ظهور الرأسمالية والحداثة في بلدنا، وهي شكل “العدالة الاجتماعية” المعتمد من لدن الناس.

وعلى كثرة ما في هذا الشكل من هشاشة وزيف، فإنّ شرائح واسعة من الناس مقتنعة، بالملموس، بأن الطوائف قنوات حماية اجتماعية لها، وهي انتفضت عندما أخذت تتلمّس أنّ هذا قد انحسر للغاية، لكن حدود انتفاضتها كانت حدود عدم امكانية تأمين الانتفاضة لمشروع حماية اجتماعية بديلة بالملموس وبالمنظور لها، والشطط الذي تملّك قسماً كبيراً من الناشطين، من أنّ تجذير الاحتجاج، أي “تسييسه”، يكون باعتبار أنّ أساس المشكلة سياسية، وحلّ المشكلة الاجتماعية – الاقتصادية يستتبع لزاماً الحلّ الجذري للمشكلة السياسيّة “المستعصية”.

في الواقع، فإنّ تسييس الاحتجاج بالشكل المناسب لتجذيره وتوسيعه يفترض نقد تصوّر يقدّم السياسة كمفتاح سحريّ، وليس العكس. “التسييس الزائد” مثل التسييس الناقص: فصل للسياسي عن الاجتماعي. فصل السياسي عن الاجتماعي، بحجة أن الاجتماعي حلّه يصبح تحصيل حاصل حين يضبط السياسي بالشكل الصحيح، كان فاتحة لتراجع الزخم ثم لضمور الانتفاضة حتى قبل موسم الكورونا. وترافق ذلك مع ميل إلى انفراد كلّ نفر بـ”همّه” الخاص، ما دامت الناس التي لم تعد تشعر بأنّ طوائفها تحميها اجتماعياً حتى بالشكل الجزئي والمزاجي والمتقلّب الذي كان يحصل قبل سنوات قليلة (وهو شعور متفاوت بمقدار تفاوت الوقائع من طائفة إلى أخرى، ومن جمهور يتبع حزباً إلى جمهور يتبع حزباً طائفياً آخر في الطائفة الواحدة) لم تشعر أيضاً بأنّ عرس “الثورة” يقيها من بطالة وجوع وعوز.

لكن الأمور سجال في هذا الصدد، وهي مقرونة أيضاً بأنّ كفر الناس بالانتفاضة لن يعيد الطوائف إلى دورها الحمائي اجتماعياً في وقت سابق، ولن يفرج للناس عن ودائعها الصغيرة والمتوسطة في المصارف، ولن يُلغي السؤال المركزي حول من يدفع فاتورة الكارثة الاقتصادية والاجتماعية، بالدرجة الأولى، الأكثر غنى أو الأكثر فقراً؟

هناك وزير صحّة لديه تصوّر بيانيّ حول كيفية معالجة أزمة الكورونا، ويجتهد على أساسه، إنما في حكومة أقل ما يقال إنّ لديها شعوذة في شكل خطة اقتصادية

الأمور سجال، لكن الجماهير ليست غبّ الطلب، لا قبل ولا أثناء ولا بعد موسم الكورونا، وأيّ إعادة استفهام عن دورها في هذه المرحلة لا قيمة له ما لم يكن مقروناً بالنظر في أمر ومآل شبكات الأمان والحماية الاجتماعية التي تندرج ضمنها أو التي تبنيها بنفسها، وحتى عندما يكون كلّ نفر يحاول بناء شبكة أمان له أو لعائلته دوناً عن بقية القوم، فإنه يسهم بشكل أو بآخر ببلورة شبكة أمان وحماية اجتماعية تتخطّى حدود وعيه المباشر. فكرة أنّه لم تعد هناك شبكات أمان وحماية اجتماعية هي فكرة خاطئة جداً. وحتى بالنسبة إلى تعطّل شبكات الحماية الطوائفية، وهو ما حصل بشكل متفاوت بين الطوائف مطلع الخريف الماضي، فإنّ هذا الأمر تبقى له حدوده، وسيعود فتظهر “واقعية” هذه الشبكات عندما تكون الناس قد استوعبت درجة معينة من تراجع شروطها المعيشية وقدرتها الشرائية، لكنها تبحث عمّا يقيها من موجات تراجع مزيدة. هذه الشبكات تعود فتطرح “واقعيتها اللئيمة” عندما يصير همّ شرائح واسعة من الناس هو في نطاق الأود، والبقاء على الحياة، ليس أكثر.

هناك وزير صحّة لديه تصوّر بيانيّ حول كيفية معالجة أزمة الكورونا، ويجتهد على أساسه، إنما في حكومة أقل ما يقال إنّ لديها شعوذة في شكل خطة اقتصادية. أساس هذه الشعوذة بسيط، وهو أن الحكومة تحسب أنّ هناك في عالم اليوم من هو قادر وراغب في اقراضها ولو قرش واحد. هذا في وقت هناك سباق عالمي لمعرفة أين ومتى سيتسبّب ارتفاع كاهل المديونية بتفجير صاعق أزمة اقتصادية عالمية، ان لم يكن مجاعة كوكبية (واذا ما عدنا لأعمال جيريمي ريفكين سنرى أنّ هناك مجاعة قاساها عشرات ملايين الناس عبر العام بعد أزمة 2007-2008 المالية العالمية ولم يجر الالتفات اليها، على غرار تسليط الضوء على المجاعات المرتبطة بأقوام دون سواهم).

فالدول الغربية، وهي تواجه الوباء، تموّل هذه المواجهة، لتسند الشركات الصناعية الكبرى لتدفع لعمالها وموظفيها، ولتجنّبها الانهيار، وترفع نسبة تمويلها للبحث العلمي، والنظام الصحي، ومراقبة حركة السكان. وكلّ هذا يتطلّب مصدراً للتمويل، والمصدر يكون إما الضريبة وإما الإقراض. وهكذا تزداد بشكل مخيف المديونية العالمية في الدول الغربية اليوم، وفي مقدّمتها الدين العام للولايات المتحدة الأميركية، فيما تزداد على نحوٍ مستفحل أيضاً ديون الشركات الكبرى شرق آسيا، من الصين إلى تايوان وكوريا الجنوبية. إنما الحلقة الأضعف في هذا المجال تبقى شركات الاستثمار العقاري الخاصة في الصين. وكلّ هذا، تراكم سابق لسنوات على الكورونا، لكنه يتنامى بشكل متسارع ومخيف اليوم.

أن تُوقف دفع ديون سابقة، ثم تُعرض خطة لاقتراض ديون جديدة، في وضع كهذا اليوم، فهذا بكلّ بساطة يدخل في عالم الشعوذة. إنما هي شعوذة مبنية على تقدير “واقعي” واحد، وهي انتظار أن تنفجر الأزمة الاقتصادية و”الجوعية” العالمية للقول من بعدها إنّ بلاءنا جزئي ونسبي أمام هول المصاب الكوكبي البشريّ، وأنّ كلّ هذا من طبيعة الأشياء، أو من غيبياتها لا فرق.

والحال أن اللحظة الحالية، تبدو هكذا: إنها لحظة تسابق بين أزمات بلد وبين أزمات كوكب. هناك خطة بلورتها وزارة الصحة، ويعكف عليها وزير الصحة، لكن ليس هناك لا خطة للحكومة ككلّ لا في مواجهة كورونا، ولا في مواجهة المصارف، ولا في مواجهة الأزمة الاقتصادية الداخلية، ولا في استشراف الأزمة الاقتصادية العالمية المقبلة .. اللهم إلا من باب، انتظارها، للاحتماء بها.

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…