الكثير من اللبنانيين هربوا من كورونا إلى الريف، منهم من عاد إلى المدينة قبل أسابيع، بعد استئناف الحياة شبه الطبيعية، ومنهم من لم يعد بعد وربما لن يعود، ومنهم أيضاً من يتحضّر للهروب مجدّداً، والسبب الجديد بعد كورونا هو البطالة.
يحمل أحمد (شاب ثلاثيني مُجاز بالهندسة) معولاً أكله الصدأ ويحاول زراعة “حاكورة” المنزل ببعضٍ من الشتول والبذور، يتصبّب منه العرق، فيما يستمرّ بالحفر بطريقةٍ غير احترافية تحت أشعة الشمس الحارقة، وكأنّه يعاقب نفسه على خطإٍ اقترفته هذه النفس. نقترب منه لنسأله عن سرّ غضبه هذا. هو مثل كثيرين لجأوا إلى “الهجرة المعاكسة”، هذه المرّة من المدينة إلى الريف، هرباً من شبح البطالة الذي يهدّد مليون لبناني (بحسب إحصاءات شركة “الدولية للمعلومات”) وبحثاً عن كلفةٍ معيشية أقلّ شراسة علّها تتوافق مع الظروف الاقتصادية الصعبة التي على اللبنانيين أن يعتادوا عليها، إلى أجلٍ غير مسمّى.
فقدَ أحمد عمله في أحد المراكز التجارية في شهر نيسان الماضي، بعد عمليات الصرف الجماعي التي لحقت بالعشرات، وهي المهنة التي ارتضاها لسنوات بالرغم من عدم توافقها مع شهادته الجامعية. لكنّها كانت ضرورية ليؤمّن قوت يومه في بيروت “وكي لا أطلب مصروفي من والدي” على حدّ تعبيره. ورغم ذلك وجد نفسه “مشحوطاً” ومطروداً من العمل، في أصعب الظروف المالية والاجتماعية حرجاً. ولم تكن هناك خيارات أمامه. فالمعيشة مُكلفة جداً، لا تبدأ بإيجار غرفته 600 ألف ليرة، ولا تنتهي بفواتير الكهرباء والماء وثمن الغذاء والدواء… فوجد نفسه مجبراً على العودة إلى منزل أهله في مرجعيون.
إقرأ أيضاً: لحماية الزراعة والصناعة: تثبيت سعر الصرف أيّاً كان
يفرّق الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة بين الفئات التي هربت من المدينة إلى الريف، وهم طلاب الجامعات الذين أغلقت جامعاتهم أبوابها وقرّروا العودة لأسباب اقتصادية، وبين العمال الذين عادوا لأنهم فقدوا وظائفهم، وبين الفئة التي عادت إلى الريف كملجأ أخير لتفادي الجوع، ولحسابات متعلّقة بالأمن الغذائي، على أمل تعويض فرص العمل من خلال العمل في الزراعة.
ويؤكد في حديثه لـ”أساس” أن كلّ من لديه منزل في الريف وفقد عمله لا مصلحة له في البقاء بالعاصمة، لأنّ المعيشة ستكون أقل كلفة عليه بـ30 إلى 40%. لكن في حال عدم توفّر المنزل بالتزامن مع عدم توفّر فرصة عمل في الريف، فلن يكون الهروب إلى الريف خياراً اقتصادياً جيداً، برأي عجاقة. وعندها، ستكون الكلفة على المواطن أكبر بكثير لأن بيروت يمكن أن تقدّم احتمالات أكبر للعثور على فرصة عمل، ومجالات العيش فيها أكثر اتّساعاً مع وجود جمعيات تقدّم المساعدات الاجتماعية في المدن أكثر من القرى.
ويرى عجاقة أن هذه الظاهرة “ستتفاقم بشكل بشع جداً”، وربما لن تقتصر على العاطلين عن العمل. فاليوم، كلّ مواطن يتقاضى راتباً يقلّ عن مليوني ليرة في بيروت، بات يُعتبر من الطبقة الفقيرة، في ظلّ الغلاء واستمرار ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الليرة: “سنشهد ازدياداً في شغور المنازل والشقق في بيروت”. وعن مستويات البطالة حالياً، يلفت عجاقة إلى أنّها “في أحسن الأحوال تجاوزت الـ50%، بينما البطالة التقنية (أي من توقف عن العمل بسبب الأوضاع وربما يعود إليه لاحقاً) فوصلت إلى 80%”.
إذاً، المسألة المادية هي المحدّد الحاسم في المرحلة الحالية، والمعيار الوحيد لضبط إيقاع حياة اللبنانيين. فالناس تبحث عن كيفية تأمين مستلزمات معيشتها اليومية، برأي الدكتور زهير حطب، وهو باحث متخصّص في “علم اجتماع الأسرة”.
حطب له مقاربة أخرى هنا، إذ إنّ المواطن اللبناني قد يتوقّع أنّ الحياة في الريف أقل كلفة: “لكن نحن نعرف أن السوق في لبنان هي سوق موحّدة سواء في الريف أو المدن، و80%، حيث مستلزمات معيشتنا هي مواد مستوردة، وبالتالي مسعّرة بالدولار. ما يدلّ على أن هذا سبب وهمي ليُبنى عليه قرار الانتقال من مكان لآخر. ومن اكتوى بالتغيّرات واضطرّ للاستسلام لها، ربما وجد باباً يمكن أن يساعده في الاكتفاء ولو بنسبة 50% في ما يتعلّق بالمواد الغذائية الأوّلية، وهو العودة إلى الطبيعة واستثمار الأرض”.
وبرأي حطب أنّ المهاجرين عكسياً “قد يجدون في الريف أو في الإقامات المتجانسة والقرابية بيئة مناسبة للاستدانة أو الاعتماد على الآخر، حيث يمكن أن تُستعاد التقاليد الاجتماعية المتوارثة في الواقع المعقّد اقتصادياً أولاً، وسياسياً وأيديولوجياً ثانياً”.
حطب يتحدث إذاً عن انفلات “الأمن” من بوابة “الفقر” وتحوّل مواطنين عاديين، ولا سجلات إجرامية لهم، إلى “قطّاع طرق”، بحثاً عن لقمة العيش
ويشرح حطب في حديثه لـ”أساس” عن وجود سبب مختلف لقرارات هروب الناس إلى الريف، وهو “ظهور الشعارات الطائفية والهتافات ذات الطابع الطائفي التي تدفع الناس، وإنْ لا شعورياً، إلى العودة لتأمين نوع من الحماية في إطار الاحتماء بالعصب الطائفي، مثل السكن في منبتهم الأصلي، أو في مناطق متجانسة، ما يوفّر لهم حماية أمنية نوعاً ما”.
ومع ارتفاع سعر صرف الدولار، يتوقّع الدكتور حطب تعمّق ظاهرة الهجرة المعاكسة. ويؤكد أننا في نهاية الفترة التي نقول عنها “ذهبية” وفيها نوع من “البحبوحة”، التي “كان سلوك نصف اللبنانيين خلالها غير منطقي. وكان نمط المعيشة مكلفاً خارجاً عن المنطق. فأصغر مواطن يحمل أحدث هاتف، ولا يستعمل أكثر من 10% من إمكانات استخدامه التقنية. أما اليوم، فلن يستطيع أحد أن يقلّد أحداً… بل عليه أن يتدبّر أمور نفسه بما أُتيح له وبما أمكنه. والمجموعات عزيزة النفس ستنضبّ أكثر على نفسها. وقد نرى تحوّل بعض الجماعات إلى قطّاع طرق ومنحرفين”.
حطب يتحدّث إذاً عن انفلات “الأمن” من بوابة “الفقر” وتحوّل مواطنين عاديين، ولا سجلات إجرامية لهم، إلى “قطّاع طرق”، بحثاً عن لقمة العيش. وبرأيه أنّ “الخطر الأساسي لم يعد من الخارج ومن الحدود ولا ما يأتي من خارج الحدود، بل بات يتربّص بنا من الداخل، من داخل المكوّنات الاجتماعية اللبنانية”. ويحذّر حطب “ليس فقط من الفساد، بل أيضاً من الحقد والرغبة بالتدمير اللذين قد يؤدّيان إلى انفجار كبير”.
فأيّ انفجار اجتماعي بعد الانفجار الاقتصادي والمعيشي تخبئه لنا الأيام المقبلة؟
في هذا الوقت تغرق الحكومة في توزيع الحصص بالتعيينات، ويغرق رئيسها في امتداج نفسه وتأكيد أنّ معظم اللبنانيين باتوا يثقون بحكومته. هؤلاء “المعظم” الذين باتوا بلا عمل ولا مدخول ولا مورد رزق، وعلى أبواب الجوع تحت خطّ الفقر. في مشهد يؤكّد أنّ “السلطة” باتت “عمياء” ولا ترى ما يجري، وبالتالي فالانفجار لن يكون بعيداً.