في قلب الصراع: من يسيطر على البنوك؟

مدة القراءة 6 د


في قلب هذا الصراع على الخطة الإنقاذية المالية، عنوان كبير مرّ في الورقة الحكومية كما لو أنه تفصيل عابر: من سيملك القطاع المصرفي بعد الأزمة، ومن سيديره؟

تطرح الخطة الحكومية، ببساطة متناهية، محوَ ملكية المساهمين في البنوك بالكامل، واحتسابها كجزء من الخسائر الناجمة عن عجز الدولة ومصرف لبنان عن سداد التزاماتهم. ثروة هؤلاء على الورق تعادل 21 مليار دولار، سيكون محوها انقلاباً هائلاً في موازين القوى الاقتصادية في البلاد، وأكبر تحوّل في موازين الثروة في تاريخ لبنان الحديث.

إقرأ أيضاً: خطة الحكومة: هيركت 78% على ما يفوق 100 ألف $

سيكون المساهمون أمام احتمال من اثنين: إما ضخّ أموال جديدة لتملّك حصة متضائلة أمام حصة المودعين الذين سيصبحون مساهمين، وإما التخلّي عن حصصهم بالكامل. وربما يدور في خلد البعض أن بإمكان الدولة الخاضعة لسلطانه آنذاك، أن تضع يدها على القطاع الذي تدخل من خلاله رياح المضايقات الأميركية.

تأخرت جمعية المصارف ستة أشهر لتصدر بيانها المطوّل الذي اعتذرت فيه إلى الناس. ربما انتهى كلّ شيء قبل صدور البيان. خسرت البنوك معركة الرأي العام، وصار اسمها “حكم المصرف” الذي يريد “حزب الله” أن يُسقطه، بعد أن أُلصِقَت بها وحدها كلّ موبقات النظام الفاسد.

طيلة ستة أشهر، كان مسؤولو البنوك يجتمعون وحدهم، يقرّرون فتح الفروع أو إغلاقها، وحدود ما يمكن للعملاء سحبه أو تحويله، وكيفية صرف الشيكات. تتسرّب المحاضر والتعاميم من دون إعلان صريح، ثم ينصرف كلّ بنك لتطبيق ما يشاء من قيود. كان صغار الموظفين ومديرو الفروع وحدهم يواجهون غضب الناس. لم يصدر بيان واحد من جمعية المصارف ليصارح الناس بما يجري.

كانت البنوك هدفاً سهلاً. هي التي في الواجهة، تحرم الناس من ودائعهم. فكان لا بدّ أن تتحمّل واجهات فروعها الغضب.

بعد ستة أشهر، تخرج البنوك لتقول للناس إن أموالكم لدى السلطة، وإن السبيل لاستعادتها هو ضمان السلطة السياسية لديون الدولة، وإعادة هيكلة جذرية للقطاع العام. وتقترح “تقديم مؤسسات عامة مربحة كضمانات للمودع والمصرف”.

هكذا تكتمل صورة الصراع: بنوك تتهم الدولة بالفشل وتطالب بإعادة هيكلتها وسلبها مؤسساتها المربحة، ودولة تتهم البنوك بالجشع وتطالب بإعادة هيكلتها لنزع ملكية مساهميها.

ليس هذا إلا وجهاً من أوجه الصراع الأكبر على توزيع الأثمان، وربما إعادة رسم خريطة الثروة.

في تاريخ لبنان، يرتبط توزيع الثروة ارتباطاً وثيقاً بموازين القوى السياسية. كانت الثروة حتى السبعينيات متركّزة بيد المسيحيين، ثم صعدت أسماء سنيّة في عالم الثروة في الثمانينيات، ثم كان الطائف. حين طُرح في عهد الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلغاء الوكالات الحصرية، قيل إنه يريد إرساء “طائف اقتصادي” يعكس الموازين التي أرساها الطائف السياسي.

هذه أيّام “الطائف المعاكس”، منذ اللحظة الفارقة في اتفاق الدوحة عام 2008 وما مهّد لها. يقول المنطق السياسي إن توزيع أثمان الأزمة الراهنة لا بدّ أن يعكس موازين القوى، لتكون المحصّلة توزيعاً جديداً للثروة يفرضه الأقوياء.

قبل أيام، سقط “الهيركت” من دون معركة سياسية، ومن دون تصويت في مجلس الوزراء أو في مجلس النواب. كان كافياً أن يقول رئيس مجلس النواب نبيه بري: “اِقرأوا الفاتحة”. بات واضحاً الآن من بيده القرار في شأن الخطة الإنقاذية.

بيروت لم تتقدّم بطلب رسمي لصندوق النقد الدولي حتى الساعة، وكأنها تنتظر إشارة ما، ذات صلةٍ بالقرض الإيراني المتعثّر

في الساعات التالية، تراجع رئيس مجلس الوزراء حسان دياب خطوة إلى الوراء، ليخرج بوعد جديد بعدم المسّ بثمانية وتسعين في المئة من حسابات المودعين. ليست مسألةً تقنيةً بالتأكيد. فالنقاش التقني في شأن الأزمة المالية استُنفِد، ولم يبق إلا الصراع السياسي على توزيع الأثمان.

يحتاج حسان دياب إلى أن يفهم ما يريده الثنائي الشيعي، وما يريده “حزب الله” بالتحديد ليحفظ استقرار حكومته.

لربما كانت الأشهر الفائتة كافية لاختبار الخطوط الحمر. كان التحذير الأول من اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، مع السماح بالحصول على مساعدة تقنية منه. ثم بدا أن تساهلاً ما طرأ في هذا الشأن، مع ضوابط سياسية مشدّدة، لا سيما بعد أن تقدّمت إيران بطلب للحصول على قرض عاجل بخمسة مليارات دولار. ولاحت الفرصة حين فتح الصندوق الدولي خزائنه للإقراض العاجل للدول التي تحتاج عوناً في مواجهة فيروس كورونا. أُعلن أن حكومة دياب اتصلت بالصندوق لطلب نصيبها من المليارات السهلة، غير أن مسار القرض الإيراني تعثّر بعد ذلك، فخرج الرئيس حسن روحاني مهاجماً الصندوق، وردّ الصندوق بأن طهران لا تتعاون في تقديم المعلومات التي يطلبها. يصدف أن بيروت لم تتقدّم بطلب رسمي لصندوق النقد الدولي حتى الساعة، وكأنها تنتظر إشارة ما، ذات صلةٍ بالقرض الإيراني المتعثّر. مع العلم أن دولاً عدة قي المنطقة حصلت بالفعل على قروضها خلال أيام قليلة، مثل الأردن وتونس وقرغيستان وموريتانيا والمغرب.

الخط الأحمر الثاني كان تشريع “الكابيتال كونترول”، والذي أسقطه الرئيس بري بعبارة موجزة، ومن دون كثير ضجيج. وأعقب ذلك خط أحمر ثالث أسقط “الهيركت” قبل أن تتضح معالمه.

ماذا فهم حسان دياب؟ وكيف سيتصرّف الآن؟

ألمح رئيس الحكومة في كلمته الأخيرة إلى أن في جعبته خطة تتيح عدم المسّ بـ 98 في المئة من الحسابات. مفاد كلامه أنّ ما يمكن أن يُمَسّ هو الحسابات التي يفوق رصيدها 500 ألف دولار، وهذه لا يتجاوز عددها 50 ألف حساب تحوي 87.2 مليار دولار، كما في منتصف شباط. وإذا ما استُثنيت الحسابات بالليرة اللبنانية، فإن الوعاء المتبقّي لا يتجاوز 73 مليار دولار، هذا على افتراض أن هذا الوعاء بكامله صالحٌ للمسّ به.

وللتذكير، فإن مسودة خطة الحكومة تفترض الحاجة إلى تغطية فجوة مقدارها 63 مليار دولار من أموال المودعين، أي نحو 86 في المئة من الوعاء القابل للمسّ، وفق ما يقول دياب.

هذا يعني أن الحكومة أمام واحد من احتمالين:

– إما أن تطبّق عملية bail-in، أي استبدال الودائع بأسهم، على كلّ الحسابات التي يفوق رصيدها 500 ألف دولار، بنسبة 86 في المئة على الأقل.

– وإما أن توفّر موارد أخرى لسدّ الفجوة.

سيكون هذا هو لبّ الصراع السياسي المقبل. الخيار الأول يعني مواجهة مع خمسين ألفا، كثرٌ منهم رجال سلطة أو أصحاب نفوذ أو مفاتيح انتخابية. والخيار الثاني ينطوي على قرارات سياسية كبيرة، منها الخصخصة التي رفضها “حزب الله” طويلا، ومنها ما يرتبط بعناوين من نوع استعادة الأموال المنهوبة، والتي قد تفتح الباب على مستويات جديدة من الصراع الداخلي. وقبل الخيارين وبعدهما سيكون العنوان الأوضح للصراع: السيطرة على القطاع المصرفي.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…