منذ تعيينه وزيراً للداخلية في حكومة حسان دياب، وضع العميد السابق في الجيش محمد فهمي سلسلة أولويات على رأسها مكافحة الفساد ضمن نطاق وزارته امتداداً للأجهزة الأمنية التي تخضع لسلطته وكافة الدوائر والمديريات التابعة للوزارة وصولاً إلى البلديات.
في مفهوم وزير الداخلية، يأتي ملف الفساد في البلديات في رأس الاولويات. وفي اللحظة التي بدأ نشاط الداخلية يبرز على هذا الصعيد، لاحت كارثة كورونا في الأفق لتقلب أولويات الحكومة نفسها رأساً على عقب، فتتحوّل البلديات إلى قوة مؤازرة أساسية في “غرفة عمليات” مواجهة الوباء. يقرّ فهمي بأن هناك ضغطاً كبيراً على البلديات في إطار مكافحة كورونا، منوّهاً بعمل رؤسائها والموظفين، لكن مع التمنّي “بالبقاء ضمن نطاقهم البلدي”.
قبل أسابيع من التفرّغ لمهمّة محاصرة الفيروس القاتل، كانت بدأت بوادر خطة المواجهة في “الداخلية” من خلال مكافحة التلزيمات بالتراضي “ودفاتر الشروط المعدّة مسبقًا وفق أهواء المتعهّدين”، كما قال فهمي. وإحالة ملفّ تلزيم الكنس والجمع في بلدية بيروت لمدة خمس سنوات إلى القضاء المختّص، هو الذي كلّف 71 مليون دولار، لوجود ملاحظات على دفتر الشروط الخاصة والتحضير للمناقصة وتلزيمها، بالإضافة إلى أن المتعهّد الذي باشر بالعمل في آذار 2018 لم يلتزم بكامل بنود العقد.
إقرأ أيضاً: الجيش وحالة الطوارئ: Don’t mix
كما أحال إلى النيابة العامة التمييزية 20 رئيس بلدية في محافظتي البقاع وبعلبك، من ضمنهم رئيس بلدية زحلة، بتهمة هدر المال العام. جرى ذلك بمعزل عن الدور الذي كانت ولا تزال تقوم به البلديات اليوم ضمن معركة مواجهة فيروس كورونا وفي ظلّ إعلان حالة التعبئة العامة.
يقول وزير الداخلية لموقع “أساس”: “لقد وضعتُ من ضمن أولوياتي ليس مكافحة الفساد، بل القضاء عليه، خصوصًا في البلديات. ونحن نحيل تباعاً الملفات إلى القضاء بناءً على إخبارات أو بوجود شبهات بالاستناد إلى مستندات ومعطيات، وكلّ من يُثبت تقديمه ملفات مزوّرة بغية التضليل سيُلاحق ويحاسب”.
ويضيف: “وزارة الداخلية المُنهمكة في ورشة تعميم وتطبيق الإجراءات الكفيلة باحتواء الفيروس ومحاصرته، تستمرّ في مهامها في ما يخصّ رصد عمل البلديات، والقضاء صاحب الاختصاص يقوم بعمله، وهو سلطة مستقلّة ونثق بها بما يمكن أن يقود إلى تنظيف البلديات من رواسب وتراكمات الفساد”.
ويؤكد فهمي: “ما في رئيس بلدية كبير و”ما بينطال”، والقانون سيطبّق على الجميع، حتى أنا تحت القانون، ولن أغطي أحداً”، مشيرًا إلى “وجود لجان متخصّصة ضمن الوزارة تعمل بشكل ثابت ومثابر في ملفّ البلديات”.
لكن ماذا عن رؤساء البلديات الذين لا يزالون بحماية بعض السياسيين ولا أحد يجرؤ على المسّ بهم؟
يردّ فهمي: “الملاحقة والمحاسبة ستطال كلّ متورّط بعد توافر المعطيات التي تدينه وفق الأصول القانونية مع إعطاء الإذن بالملاحقة. وحتّى اللحظة لم يراجعني أحد بأيّ ملف أو بأيّ رئيس بلدية. وفي حال المراجعة موقفي معروف بالاعتذار من المتصل. وعندها لن أتردّد في الكشف للإعلام عن هوية من اتّصل بي وكرمى لأيّ رئيس بلدية!”.
جزءٌ كبير من ملفات هؤلاء ممّن صُنّفوا “مفاتيح” انتخابية وسياسية وتنفيعية لا تزال في الجوارير بانتظار من “يخلع” الجارور ويدخل مغارة أحد أكبر منابع الفساد في لبنان والتي لا تقف بالتأكيد عند عتبة رئيس البلدية
وفيما دلّت بعض التحرّكات الشعبية في المناطق منذ انطلاق الانتفاضة بالإصبع إلى مكامن الفساد، مع العلم أنّ حجم الهدر في بعض البلديات الكبيرة و”الدسمة” يفوق ذاك المرصود في بعض الوزارات والمؤسّسات العامة، فإن مهمّة الوزير فهمي تبدو صعبة للغاية.
بالتجارب الموقّعة بختم العقود المتعاقبة، سلطة بعض رؤساء البلديات تكاد توازي “أكبر الرؤوس” في الجمهورية اللبنانية. عند “الريّاس” تجتمع أدوات السلطة والنفوذ: خدمات، وتلزيمات وفق المزاج، ولهم تفرز الكراسي في الصفوف الأمامية، ويكاد بعض السياسيين يدين لهم بالولاء لـ”شِغلهم” غير النظيف لكن الضروري في الانتخابات، وهناك رؤساء بلديات يعمّرون لعقود ويجمعون ثروات طائلة ولا أحد يحاسبهم في صناديق الاقتراع، ولا يسألهم من أين لهم هذا في ظل “التطنيش” عن أعمالهم. همّ مفاتيح الفَرج لطبقة سياسية بأكملها ومنبع خدمات لها. والخدمة مقابل خدمة. وكان من الصعب تجاهل واقع حصول عملية ابتزاز في الانتخابات النيابية الماضية في ظلّ رؤساء بلديات “طالعة ريحتهم”، لكن الأمر كلّفهم فقط نقل البارودة من كتفٍ إلى آخر ومحاباة من صار في موقع السلطة لمنع الملاحقة بحقّهم…!
جزءٌ كبير من ملفات هؤلاء ممّن صُنّفوا “مفاتيح” انتخابية وسياسية وتنفيعية لا تزال في الجوارير بانتظار من “يخلع” الجارور ويدخل مغارة أحد أكبر منابع الفساد في لبنان والتي لا تقف بالتأكيد عند عتبة رئيس البلدية. فمعه هناك الأبناء، وشجرة العائلة، وسياسيون، ورجال أعمال، ومستثمرون، ومتعهّدون، ومنتفعون، وصولاً حتى إلى رجال دين وآخرهم رجل دين محسوب على رئيس بلدية في المتن الجنوبي اضطرّ إلى ترك مقرّه حيث يخدم “بليلة ما فيا ضوّ قمر”… في إجراء لإبعاده عن دائرة الضوء من دون معرفة ما إذا كان ملفّه سيسلك درب اللفلفة أو المحاسبة.
وفضيحة “الريّاس” بالطبع مستمرة وإن بحياء أكثر من السابق. وهنا لم يتردّد رؤساء بلديات في استقبال انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية بلافتات الترحيب والتطبيل فيما الكثير منهم كان “يشيطنه” في السياسة. بدا الأمر على شاكلة “الإيد يللي ما فيك عليها بوسها وادعي عليها بالكسر”! في ظل العهد القوي واظبت بعض المافيات البلدية في سياستها الاستراتيجية بالسرقة والهدر لكن بوقاحة أقلّ.
على طاولة القضاء المالي اليوم هناك ملفات مفتوحة لبلديات بسبب اتهامات بالهدر والفساد وإبرام صفقات وسوء استغلال السلطة، وأخرى “فَرَط” مجلسها البلدي ربطًا بهكذا ملفات، إضافة إلى كمّ من الدعاوى القضائية وشكاوى وادعاءات من النيابات العامة بحقّ بعض “الريّاس” على خلفية ارتكابات مالية خصوصاً منها المتعلّق بمافيا المولدات المُرتبطة برؤساء بلديات مباشرة أو تعدٍّ على أملاك عامة أو استثمارها لمصالح شخصية. مع تسجيل وجود دعاوى عالقة في القضاء “بفضل” الضغط السياسي ومنها المتعلّق باختلاسات كبيرة من الصندوق البلدي أو تزوير مستندات وتراخيص، وأخرى دعاوى تحضّر بتأنٍّ كي لا يُترك المجال للثغرات، فيما وُضعت بعض البلديات تحت مجهر المراقبة والرصد… تمهيدًا لمحاسبة آتية لا محالة.
يُذكر أنّ رئاسة الجمهورية كانت أعلنت في آذار الماضي أن 17 ملفًّا أحيلت على التحقيق ومنها ملفات عدد من البلديات التي شهدت ارتكابات، لكنّ معنيين يؤكّدون أنّه منذ انطلاق العهد الحالي لم تُسجّل محاسبة حقيقية على مستوى وضع الرؤوس الكبيرة من “الريّاس” في السجون!