مغارة جديدة من مغارات علي بابا في لبنان، بين الأموال التي ترصد للسدود، والأموال التي تكبّدها لخزينة الدولة من جيوب المواطنين،. الفارق التقريبي يزيد عن نصف مليار دولار، ويصل إلى 591 مليوناً تقريباً إذا استُكملت الأعمال في سدّ جنة، فوق الكلفة الأصلية المذكورة في الخطة والتي تبلغ مليار و975 مليون دولار لمجمل السدود الـ29، عدا عن سدّ بسري من خارج الخطة والذي توقفت الأعمال فيه وكلف الدولة استملاكات فقط بقيمة 155 مليون دولار.
هذه الأرقام توضحها مستندات مسرّبة من “مغارة” الطاقة حصل عليها “أساس”، وحاولنا قراءتها وتفسيرها مع عدد من الخبراء.
معظم السدود التي أُنجزت حتّى الآن كان مصيرها الفشل، وهي التالية: القيسماني، بقعاتا، بريصا، المسيلحة، بلعا. أما السدود التي لا تزال قيد التنفيذ من ضمن الخطة نفسها فهي التالية: جنّة، بسري، العاصي.
في حديث طويل مع الخبير الهيدروجيولوجي الدكتور سمير زعاطيطي، يفنّد فشل السدود، كلّ لأسباب خاصّة بها. وسنعرضها في الآتي، مع كلفتها، ومع تقارير علمية أجنبية حذّرت من الفشل أو سخرت منه:
– سدّ بريصا 2013: كلّف 27 مليون دولار، في حين كان مرصود له في الخطة 3 ملايين دولار فقط. وقد فشل في تجميع المياه بسبب طبيعة الأرض. فقد تبيّن وجود تفسّخ في الصخور، ولا يمكن بناء سدّ في المنطقة. وعلى الرغم من ذلك، وافق البرلمان اللبناني على قرض جديد له في العام 2019 بقيمة 8 ملايين دولار، لترقيع أرضيته، ومع ذلك لم ينجح في تجميع المياه.
– سدّ بلعا 2017: كلّف بحسب المستندات المرفقة أكثر من 50 مليون دولار، بينما كلفته في الخطة لا تتجاوز 26 مليون دولار. وترجّح مصادر مطلعة وصول كلفته إلى نحو 90 مليون، إذ اكتشف 25 بالوعاً في موقع البحيرة، التي حاولت الوزارة ترقيعها بطبقة من الإسمنت، ولن ينجح الترقيع، علماً أنّ فكرة بناء سدّ في هذه المنطقة خاطئة في الأساس، كونها منطقة بواليع تقوم طبيعياً بتخزين المياه جوفياً، وبالتالي ومن الناحية الهندسية لا يمكن تخزين المياه فيها سطحياً، وكان قد أُنشئ السدّ على بعد 250 متراً فقط من بالوع تنّورين الضخم.
وهذا الفشل عُرض في مؤتمر علمي للسدود عبر شركة Artelia ، الذي تحدّث عن وجود كسر صخري بارز في أرضية السدّ واضح في الخرائط، أدّى إلى تسرّب كلّ مياه البحيرة. المؤتمر نظّمته لجنة السدود والخزانات الفرنسيةcomité français des barrages et reservoirs (مرفق pdf).
– سدّ المسيلحة 2019: كلّف 74 مليون دولار، في حان كان رصد له في الخطة 55 مليوناً فقط (صورة مرفقة). وهو يعاني من تجميع كميات كبيرة من الوحول والتسرّبات بالإضافة إلى ضعف الجاذبية في جرّ المياه، ما يستدعي استخدام مضخّات مكلفة، كونه يقع فوق صخور رملية تصبح طينية هشّة أيام الشتاء نتيجة تسرّب المياه إلى داخلها عبر مسام دقيقة. فيكبر حجمها وتنتفخ. وبما أنّها محصورة بين كتلتين صخريتين قاسيتين. ويُشار لهما باللون الأصفر والطبشوري وباللون الأخضر، كما توضح الخريطة أدناه، من مسطح جيولوجي للبترون (الصورة المرفقة). وقد أدّى تأثير المياه الضاغطة (2 طن) فوق طبقة طينية مائعة رطبة إلى انزلاق الطبقة من تحت السدّ أفقياً باتجاه فراغات وبواليع نهر الجوز واختفائها داخل فراغات كسر البترون الشهير، وهذا ما يفسّر اختفاء مليوني متر مكعب مياه سريعاً.
– سدّ القيسماني: وصلت كلفته إلى 30 مليون دولار، في حين كانت الكلفة المرصودة وفق الخطة لا تزيد عن 25 مليوناً فقط. وهو يعاني من مشاكل التسرّب على الرغم من محاولات إصلاحه المتكرّرة. ولا مصادر لتزويده بالمياه، فلا نهر ولا نبع، بل بعض الثلوج التي تذوب وتتحوّل إلى مجارٍ مائية موسمية، نصفها يتبخّر ونصفها يتسرّب عبر الكسر الأرضي إلى نبع حمانا.
معظم السدود التي أُنجزت حتّى الآن كان مصيرها الفشل، وهي التالية: القيسماني، بقعاتا، بريصا، المسيلحة، بلعا. أما السدود التي لا تزال قيد التنفيذ من ضمن الخطة نفسها فهي التالية: جنّة، بسري، العاصي
– سدّ جنة: مرصود له في الخطة الاستراتيجية 300 مليون دولار – وتوضح حسابات الوزارة أدناه أنّ إجمالي الكلفة المتوقّعة ستصل إلى 855 مليون دولار، أي 3 أضعاف (الصور مرفقة excel) صرف منها حتى اليوم أكثر من 255 مليون دولار (255.674.943 مليون دولار). وتعتبر المنطقة التي بُني فوقها كالمصفاة، لأنّها تتضمّن 3 كسور أرضية تجعلها غير مناسبة بتاتاً لإقامة السدود. وفي تقرير ألماني (مرفق pdf) لمشروع التعاون الفني “حماية نبع جعيتا”، من إعداد مجلس الإنماء والإعمار (CDR) لبنان، والمعهد الفيدرالي لعلوم الأرض والموارد الطبيعية (BGR) في ألمانيا، يتحدّث عن طبيعة الصخور الكارستية في وادي نهر ابراهيم، التي تؤدّي إلى تسرّب 32% من مياه النهر إلى داخل الصخور. وتصل إلى جعيتا وتغذّي نبع جعيتا. ويقول التقرير إنه في حال بناء سدّ، فإنّ الضغط على الصخور سيزيد نسبة التسرّب إلى 52%.
– سدّ بقعاتا: كلّف بحسب المستند المرفق أكثر من 88 مليون دولار، بينما اعتماده في الخطة لا يزيد عن 69 مليوناً فقط. وتبيّن أنّ كسراً أرضياً كبيراً يخترق قاعدته، وتقرّر تغليفه بأنسجة مانعة géo textile، وهي عملية مكلفة أثبتت فشلها، بعد فشل طمر وردم الفراغات في قاعدة السدّ/ البحيرة على طول الكسر الأرضي (كسر صنين).
– سدّ بسري: يتم تنفيذه من خارج الخطة بكلفة 617 مليون دولار، من بينها 474 مليوناً من “البنك الدولي”، الذي أوقف صرف الأموال في أيلول الماضي جرّاء عدم التزام الحكومة بالأعمال والخطط اللازمة، ومن بينها أيضاً قرض من “البنك الإسلامي للتنمية” (مرفق pdf) في 16 آذار 2016 بقيمة 128 مليون دولار.
– سدّ العاصي: السدّ الوحيد غير الفاشل. تمّ تلزيمه في العام 2005 بقيمة 32 مليون دولار. توقّفت الأعمال فيه خلال حرب تموز. وهو أحد السدود النادرة التي كانت ستحقّق نجاحاً فيما لو اُنجز، كونه في منطقة ذات طبيعة صخرية مناسبة للسدود. لكن لم تستكمل وزارة الطاقة الأعمال فيه، وصرفت الأموال التي كانت مرصودة له لحاجات أخرى. ويحتاج تنفيذه إلى 50 مليون دولار في المرحلة الأولى، و141 مليون دولار في المرحلة الثانية، بحسب الخطة.
[PHOTO]
يؤكد الدكتور سمير زعاطيطي لـ”أساس” إنّ السدود “تدرّ الأموال على جيوب السياسيين، ولذلك نشهد إصراراً على إنشائها، وابتعاداً عن حلول الآبار الجوفية الأوفر والأنظف والمتجدّدة أكثر”. فمثلاً، قد يؤمّن بئران مدروسان بكلفة 200 ألف دولار أكثر من 5 ملايين متر مكعب سنوياً، وهي الكمية التي نادراً ما يؤمّنها سدّ بكلفة 100 مليون دولار.
لماذا التمسّك بالسدود؟
يعيد مدير عام الاستثمار السابق في وزارة الطاقة غسان بيضون التمسّك بالسدود، على الرغم من فشل بعضها، إلى الطمع بالمنفعة الدعائية السياسية، وربما المادية التي يمكن أن يحقّقها الوزير من خلال استغلال موقعه والانتفاع من الاستملاكات على أكثر من مستوى وصعيدك “ولا ننسى المنفعة المالية من بيع الرمول ونتاج الحفر من البحص، والتنفيعات التي تمرّر للمكاتب الاستشارية”.
ويؤكد أنّ المشكلة تكمن في تهميش الخبرات الموجودة في وزارة الطاقة والمياه، واختصار الوزارة وإداراتها المتخصصة بشؤون المياه والموارد المائية بمكتب الوزير حصراً منذ العام 2008: “فلا يراعي الوزراء سوى الصداقات، وترتيب الصفقات ودفاتر شروطها لترسو عليهم، دون المرور بإدارة المناقصات، كما هو حال تلزيم سدّ جنّة الذي تمّ من خلال مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان لتسهيل تمريرها وفق توجّهات الوزير. حتّى إنّه عندما يجري التلزيم من خلال إدارة المناقصات وموافقة ديوان المحاسبة، تبقى للوزير إمكانية التحكّم بإبلاغ التصديق إلى المتعهّد الرابح، أي إمكانية الضغط والتفاوض على الشروط، وتعديلها لتحقيق منافع لا صلة لها بالمصلحة العامة”.
يؤكد الدكتور سمير زعاطيطي لـ”أساس” إنّ السدود “تدرّ الأموال على جيوب السياسيين، ولذلك نشهد إصراراً على إنشائها، وابتعاداً عن حلول الآبار الجوفية الأوفر والأنظف والمتجدّدة أكثر”
ويشير بيضون إلى أهمية دور مؤسسات المياه بزيادة فعالية شبكات المياه وضبط التسرّب من السدود، الذي يصل إلى 40 و50% في بعض الحالات. وهذه ليست من مهام المتعهّدين، وإنما تستوجب الاستعانة بخبرات خارجية. وكان يفترض أن تكون من ضمن اهتمامات مركز المعلومات والتدريب على علوم المياه CIFM (وهو مركز أوروبي ضمن المديرية العامة للموارد المائية مُوّلت دراسته من الدولة الفرنسية. ويشمل وجود نظام معلوماتي تجتمع فيه المعلومات الواردة من مؤسسات المياه وحول المياه الجوفية، إضافة إلى التدريب المهني اللازم في هذا الإطار). وقد ألغته وزيرة الطاقة والمياه السابقة ندى بستاني، وأطاح به الوزير الحالي ريمون غجر، بحسب بيضون.
إقرأ أيضاً: بالوثائق: كيف راكمت سدود لبنان العجز والدين العام؟
حملنا كلّ هذه الوقائع والاتهامات، وحاولنا مواجهة الجهة الرسمية المعنيّة (وزارة الطاقة والمياه). على من تقرأ مستنداتك يا “أساس”. فقد امتنعت الجهات المعنية عن التجاوب مع اتصالاتنا أو رسائلنا.
وعلمنا من مصدر مسؤول أنّ الوزير ريمون غجر يمنع أيّ شخص مسؤول في الوزارة من إجراء مقابلات إعلامية في المرحلة الحالية، رابطاً ذلك بانتظار تشكيل الحكومة. وعليه نضع هذه المستندات في عهدة الرأي العام اللبناني، ونطالب الوزارة بشرح الأكلاف أعلاه، ونشر كلّ العقود والمستندات المالية المرتبطة بالسدود، انطلاقاً من حقّنا وحقّ كلّ لبناني بالوصول إلى المعلومات. ونكرّر نحن لا نتهم، بل نبحث عن الحقيقة.