تعقيباً على قاسم قصير: لا حرب ولا استسلام بل الطائف

مدة القراءة 7 د


فوجئت بمقال الزميل قاسم قصير، في مناقشته “الهادئة” للدكتور رضوان السيد، الذي قدّم مطالعة مكثفة على حلقتين، تناول فيها أسس التوازن الوطني وعوامل اختلاله، وحال أهل السُنّة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وقراءة مشفوعة بمعطيات ومعلومات ومعايشات، لقيادة سعد الحريري، لا سيما بعد عقده التسوية مع التيار الوطني الحر، مروراً بأسباب اندحار حركة 14 آذار، على المستوى القيادي خاصة. وفي نهاية المطالعة اقترح الدكتور السيّد طريقاً للخروج من المأزق وعودة أهل السُنّة إلى المعادلة بعدما أُخرجوا منها عنوة.

ما فاجأني أن مقال الزميل يفترض أمراً لم يقله الدكتور السيّد، فيأتي هو ويقرّر العوائق العملية أمام هذا الأمر، داخلياً وخارجياً، إقليمياً ودولياً، والأهم من ذلك، “متغيّر كورونا” الذي سيغيّر العالم، فيقلب فيه التوازنات رأساً على عقب، والترجمة الفورية هنا وإن لم يذكرها المقال صراحة: سقوط أميركا عن عرشها، وصعود الصين مكانها، مفترضاً دوراً أميركياً مؤكداً في أي مواجهة يطالب بها الدكتور السيّد. وهذا ما يؤشّر حقاً على ما فهم الزميل من مغزى المواجهة متخطياً النص إلى تأويل المتخيّل، مع أنّ صاحب الاقتراح كان صريحاً بإيراده نوع المواجهة، وهي سياسية وشعبية، كما جاء في المقال الأول في منتهاه، وفي نهاية المقال الثاني الذي جاء كردّ على الردود والمناقشات التي أثارها المقال الأول.

إقرأ أيضاً: حوار هادىء مع رضوان السيد: خارطة طريق لمواجهة حزب الله؟

ما أقصده اختصاراً، أن الدكتور السيّد، ولا في أي موضع مما يناهز خمسة آلاف كلمة، دعا إلى مواجهة مسلّحة مع حزب الله. ففي المقال الأول دعا إلى “مواجهة حزب الله دون مواربة، انطلاقاً من حكم المحكمة الدولية في أيّار المقبل، وثانيها إسقاط الأوهام حول حكومة حسّان دياب، وأوّلها إعلان وفاة العهد الحالي بدون كورونا”. وحدّد أدوات هذه المواجهة: “باستمرار الضغط السياسي والشعبي على العهد للمزيد من تصديعه وزعزعته، وفتح خيارات أُخرى للبنانيين دونما انتظارٍ للآجال أو للتطورات الخارجية”. وبالنسبة لحزب الله، فهو يقترح “مقاطعة الحزب” بهدف “إخراجه من الحياة الوطنية”، كما جاء في المقال الثاني. أي يستند الدكتور السيّد إلى توازنات الواقع المحلي في دعوته، وهو مدرك جيداً لهذه التوازنات، وكذلك إلى الواقع الإقليمي والدولي الذي هو على اطّلاع وثيق بمجرياته، ولهذا قال: “دونما انتظار للآجال والتطورات الخارجية”، فلا يتوقع الدكتور السيّد، شيئاً من الخارج، لا من ترامب ولا من غيره، لا سيما بعد كورونا التي شدّد عليها الزميل مرتين في مقاله…”انتبهوا لكورونا فما بعدها سيكون العالم غير العالم”.

أما المسوّغات التي يوردها الزميل قاسم، والتي تبرّر إجهاض المواجهة العنيفة المفترضة، فهي من النوع الحربي غالباً، ومن قبيل النزاع الجيوسياسي الإقليمي والدولي بعد كورونا، كما سيأتي بيانه:

أولاً، يحذّر الزميل بصراحة عزّ نظيرها من أنّ “حزب الله ليس منظّمة عسكرية محدودة أو قوة خارجية تسيطر على لبنان أو مجموعة سياسية تقليدية في بيئتها، بل هو كل ذلك وأكثر… وأيّ مواجهة للحزب يجب أن تأخذ ذلك بعين الاعتبار، سواء في خطة العمل أو الآليات أو الظروف السياسية”. هذا إقرارٌ وتقريرٌ بأنّ حزب الله هو الأقوى عسكرياً وهو المسيطر. يعني هذا بالمنطق الشرعي الإسلامي، أنّه هو الدولة الحقيقية، وواجبٌ الخضوع لها، لا مجرد دويلة كما يقول خصومه. وهذا اشتطاط في الكلام وتهويل كما هو ظاهر. ولربما هو من حرص الزميل على السلم الأهلي في لبنان عامة، وعلى سلامة من سينخرط في المواجهة المتخيّلة.

ثانياً، ينبّه الزميل إلى أنّ الظروف السياسية الداخلية والإقليمية والدولية اليوم لم تعد كما كانت غداة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 أو في مرحلة قيام 14 آذار. واستتباعاً يعتبر أن أي رهان على وضع دولي أو إقليمي داعم في مواجهة حزب الله هو في غير محلّه. وقد سبق القول آنفاً، أن لا رهان ولا مراهنة. لكن ما ذكره الزميل عن “ضوء أخضر لحرب شبيهة بحرب تموز 2006” يثير الشجون، لأنّه هنا يتجاهل وقائع أساسية. فحزب الله هو من أطلق شرارة تلك الحرب، بعمليته الشهيرة على الخط الأزرق، وهو ما يخالف التفاهمات الدولية عام 2000 لدى انسحاب جيش الاحتلال الصهيوني. ثم إنّ إشارته تلك تتضمّن اتهاماً مباشراً لخصوم حزب الله في الداخل، بأنّهم قد يستعينون بالعدوّ في حسم نزاعات داخلية، كما يفترض خاطئاً أنهم استعانوا به عام 2006. هو هنا يقلب السياق المنطقي، فيجعل النتيجة هي السبب، أو المآل الناتج عن سبب مستقل آخر، هو الفعل الأول، ويبني عليه هرماً متعاظماً من التحليلات، على غرار كل المؤمنين بنظرية المؤامرة.

ثالثاً، يقول الزميل إنّ “حزب الله لديه حاضنة شعبية حقيقية وهي تؤمن به وبقيادته وبالأفكار التي يطرحها وهي تعتبره الحامي لمصالحها ووجودها، وهو ليس الحركة الوطنية عام 1976 بعد الدخول السوري إلى لبنان، وليس منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1982، بل هو أصبح جزءاً من النظام السياسي اللبناني بكامل مؤسساته ومندرجاته، ولا يمكن الانقلاب عليه عسكرياً أو سياسياً”.

في هذا السياق، يستدلّ الزميل بواقع طائفي، يدعو اتفاق الطائف إلى إنهائه، أي أن لا يكون لكل طائفة من يحميها، خارج الدولة ومؤسساتها. مع أنّ الزميل يدعو إلى حوار وطني في نهاية مقاله، من أجل تطبيق اتفاق الطائف. ولعلّه لم يلحظ التناقض في حينه، لكنّه كان يقصد أنّ الحزب يمثّل طائفة، ولا يمكن الانقلاب عليه عسكرياً ولا سياسياً. لكن ألا ينزع هذا الوصف الدقيق، إلى كشف جوهر الأزمة في لبنان؟ وكيف السبيل إلى حلّها؟ أي أن يكون اللبناني مواطناً، لا لائذاً بزعيم أو حزب في طائفته!

قد يعجب الزميل أني لم أناقش بند الكورونا وما ستغيّره في العالم. ببساطة لأنّ عظماء هذا العالم من المفكرين الاستراتيجيين والاقتصاديين وكبار العلماء من كل الاختصاصات، ما زالوا يَحْبون في محاولة فكّ لغز الفيروس

رابعاً، يعترف الزميل بـ “أنّ قوى المعارضة الشيعية التي تواجه الحزب حالياً لم تعد تمتلك حيثية شعبية فاعلة، وهي فشلت في توحيد صفوفها والتوصل إلى إطار عمل مشترك، وإنّ غياب هذه المعارضة الشيعية سيضعف أي مشروع وطني لمواجهة الحزب، وسيحوّل المواجهة إلى فتنة مذهبية جديدة أو حرب أهلية لا أفق لها”. هذا الكلام متهافت في ذاته. فما دامت المعارضة الشيعية فاشلة، هذا يعني أنّها غائبة فعلاً، وليس النهوض السني هو من سيفضي إلى تلاشيها. ومن ناحية ثانية، لا مواجهة مذهبية في الأفق القريب أو البعيد، ولا يدعو الدكتور السيد إلى مواجهة من هذا القبيل، ولم يخطر في باله. يُعرف ذلك من مراجعة آلاف الكلمات التي خطّها واحدة واحدة. وأخيراً، ليست المعارضة الشيعية الفاشلة أو الغائبة أصلاً هي التي تمنع الفتنة، بل العقلانية والنزعة الدينية والوطنية معاً.

خامساً، يدعو الزميل قاسم إلى “حوار وطني شامل يطرح كلّ القضايا الداخلية والخارجية، وكلّ الملفات والأزمات بدءاً من اتفاق الطائف واستكمال تطبيقه وصولاً إلى تطوير النظام السياسي اللبناني، وكيفية القيام بإصلاح شامل اقتصادي ومالي وإداري. ومن ثَمّ تحديد دور لبنان في المرحلة المقبلة وموقعه في التحالفات الاقليمية والدولية والصراع مع العدو الصهيوني وعلاقاته العربية والدولية”. وهنا ترتسم ابتسامة تعجّب. فلم الحوار الوطني الشامل، ومجلس النواب فيه كل الطوائف والأحزاب؟ لماذا الحوار وقاعدة الحلّ التسووي ماثلة في اتفاق الطائف وفي الدستور اللبناني؟ لماذا تطوير النظام اللبناني خارج المؤسسات؟ وأليست هذه دعوة ضمنية لتجاوز اتفاق الطائف؟ ولم القفز إلى المرحلة العاشرة ولم نتخطّ بعد المرحلة الأولى؟  

أخيراً، قد يعجب الزميل أني لم أناقش بند الكورونا وما ستغيّره في العالم. ببساطة لأنّ عظماء هذا العالم من المفكرين الاستراتيجيين والاقتصاديين وكبار العلماء من كل الاختصاصات، ما زالوا يَحْبون في محاولة فكّ لغز الفيروس. ولا أحد يعلم ما في الغيب إلا الله. ومن غير المفيد رسم القصور على رمال متحركة.

أما رأيي في المواجهة المطلوبة، فأقول الآن اختزالاً للوقت: لا حرب ولا استسلام. الحلّ في العودة إلى الكتاب. إلى الأساس، وهو دستور الطائف الذي اعتدى عليه الحلف الحاكم مراراً وتكراراً .

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…