لا يبدو أنّ واقعة إطلاق سراح عامر الفاخوري ستكون يتيمةً في مسار السياسة اللبنانية، بل إنّها شّكلت منطلقاً للإدارة الأميركية تبني عليها المزيد من الخطوات والمواقف. فلم تقتصر آثارُ هذه القضية على إعلان استقالة رئيس المحكمة العسكرية العميد الركن حسين عبد الله، الذي لا يزال في منصبه، مع تجديد إضافيّ، بل إنّها أعادت رسم مشهد النفوذ الأميركي في الدولة اللبنانية بوضوح.
فقرارُ إخراج الفاخوري بدأ من رأس الدولة، ثم رئيس حكومتها، فوزارة دفاعها، وقيادة جيشها، وسائر مؤسساتها، وكان الصمتُ “الصادر” عن كلّ هذه المواقع خيرَ مؤشـّر على أنّ غضب الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله قد جاء “شكلياً” وبدون أيّ مفعول سياسي.
لم يمرّ بعدُ الزمنُ السياسي على “فضيحة الفاخوري” حتى اندلعت الخلافات بين مكوّنات الحكومة حول التعيينات، لتظهر إشكاليّةٌ جديدة تتعلّق بملف التعيينات في حاكمية مصرف لبنان والمواقع المالية. وبدا واضحاً أنّ الولايات المتحدة استعملت حقّ “الفيتو” لمنع إقصاء محمد بعاصيري عن نيابة حاكم مصرف لبنان، ونجحت حتّى الآن.
إقرأ أيضاً: لنا الله أيّها الرؤساء.. ولكم محمد بعاصيري
كان طرحُ الرئيس حسان دياب تغييرَ كلّ المسؤولين الماليين وتعيين بدلاءَ لهم، وقال في مجلس الوزراء إنّه “بالنسبة لبند تعيينات 4 نواب لحاكم مصرف لبنان ورئيس وأعضاء لجنة الرقابة على المصارف وعددهم 5، وأعضاء هيئة الأسواق المالية وعددهم 3، وعضو أصيل لدى هيئة التحقيق الخاصة، ومفوض الحكومة لدى مصرف لبنان.. فإنّ التحديات الصعبة التي تواجه الحكومة لا تسمح بأيّ دعسة ناقصة”.
وبحسب مصادر متابعة للملف، فإنّ الرئيس ميشال عون أراد التجديد لجوزاف سركيس (العضو الماروني) في لجنة الرقابة على المصارف، وعندها أبلغ الرئيس نبيه بري الرئيسَ دياب أنّه إذا تمّ التجديد لسركيس فإنّه سيطلب التجديد للعضو الشيعي في اللجنة أحمد صفا، وهنا انفجر لغمٌ كان المعنيون يدركون أنهم سيواجهونه لأنّ الإدارة الأميركية تعترض على اسم صفا كونه وارداً في ملفّ “البنك اللبناني الكندي” الذي تمّت تصفيته بعد اتهام إدارة مكافحة الجرائم المالية الأميركية له بالتورّط في عمليات تبييض الأموال لمصلحة “حزب الله”.
واقع الحال أنّ مشكلة التعيينات لا ترتبط بالعاصفة الهوائية المندلعة حول الحصص في المواقع والتعيينات في المراكز لأنّ المشكلة في مكانٍ آخر، فهي تتعلّق بنوعيّة التعيينات والهدف من ورائها والصراع المندلع حول مسار النظام المالي والمصرفي في البلد ككلّ، ومدى التأثير الأميركي في هذا الملف.
وهنا يبرز سؤال: لماذا تمسّك الثنائي الشيعي بأحمد صفا، رغم أنّ بإمكانه تعيين شخصٍ آخر ليس عليه إشكالات مماثلة؟ هل هذا الموقف مقصودٌ للعرقلة أم لتحدّي الموقف الأميركي، ولماذا وضع الفيتو على محمد بعاصيري إذا كان ذا كفاية، ويمكن بإبقائه تجنّب حربٍ أميركية جامحة؟
كان سحبُ الرئيس دياب ملفّ التعيينات المالية من جلسة الحكومة محاولةً منه لكسب الوقت ولإفهام الجميع أنّ هناك خطوطاً حمراء لا يستطيع تجاوزها، وأنّه لا بُدّ من مراعاة الموانع أو الملاحظات الأميركية المتعلّقة بهذا الملف، لأنّ تجاوزَها سيضع لبنان أمام تهديد العقوبات على مصرفنا المركزي وعلى الدولة ككلّ، باعتبار أنّ وجود أشخاصٍ عليهم شبهات أميركية في هذه المناصب سيجعل الحكومة في مواجهةٍ مكشوفة معها.
لم تتأخر السفارة الأميركية في رفع البطاقة الحمراء في القصور الرئاسية، فالسفيرة دوروثي شيا أبلغت رئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء ووزير المال غازي وزني بالنيابة عن رئيس مجلس النواب بحتمية التمديد لبعاصيري ورفض التمديد لصفا، بدون أيّ دبلوماسيّة أو مراعاة لـ”مقامات” الرئاسات وتفخيمهم لذواتهم، فسحقت كبرياءَهم وأعادت تذكيرَهم بأنّ الخطوط المرسومة في السياسة المالية وامتداداتها الخارجية لا يمكن تجاوزها، وأنّ ألعابهم في التعيينات والتناتش حولها تتوقف عند الموانع التي تضعها إدارتها والقرارات التي ترفض صدورها.
الحدُّ الواضح في المنع أنّه لا مكانَ لأحمد صفا، ولا بديل عن بعاصيري، ولو وصل صراخُ “حزب الله” إلى قبرص، ولو بلغ إصرار الرئيس بري حدود تطيير العهد وليس فقط الحكومة.
أمام الموقف الأميركي الواضح، تحرّك حزب الله، فأعلن النائب حسن فضل الله أن “السفيرة الأميركية تجول على بعض المسؤولين الرسميين وتبلغهم باسم مرشح الولايات المتحدة لأحد نواب حاكم مصرف لبنان”، داعياً الحكومة “بجميع مكوّناتها إلى التصدي لمثل هذا الخرق للسيادة الوطنية”.
وقف الرئيس سعد الحريري بين خياراتٍ ثلاثة:
ــ الحياد: وهو يكرّس خروجه من المعادلة.
ــ دعم موقف الرئيس بري بذريعة الحفاظ على التوازنات.
ــ إسترضاء الجانب الأميركي، بالتمسك بمحمد بعاصيري، بعد سقوط المناورات للتهرّب من اتخاذ الموقف الواضح.
إنحاز الحريري للخيار الأخير وذهب في الشوط إلى آخره مهدِّداً باستقالة نواب كتلته من البرلمان، لكن سرعان ما أصبح التهديد في خبر كان على لسان نائبه محمد الحجار الذي وضع كلّ ما يجري في إطار ضرورة استشارة الحريري في التعيينات الخاصة بالسُنّة.
يواجه “حزب الله” مزيداً من الخيارات الصعبة التي سيكون أحلاها مُـرّاً، فإذا مرّ التمديد لبعاصيري وجرى إقصاء صفا، فستكون هزيمةً له على الملأ
وبحسب مصادر سياسية مطّلعة، فإنّ هذا الملف سيشكّل تحدياً جديداً لسلطة “حزب الله” الذي يسعى لإسقاط كامل المنظومة المصرفية والمالية وصولاً إلى منظومة “الاقتصاد المقاوم” وفرض التغييرات السياسية وإحلال “عقيدة اقتصادية” مبنية على الارتباط بالمحور الإيراني. لكن هل يستطيع الحزب الذهاب إلى النهاية في تهديم الهيكل المالي في ظلّ الحصار الخانق الذي تتعرّض له إيرانُ وأحزابُها في المنطقة؟ وهل يستطيع “خنق” لبنان، حيث “الباحة الخلفية” و”الحيوية” لإيران ولذراعها الرئيسي، حزب الله نفسه؟
الأرجح أنّ سيناريو إطلاق عامر الفاخوري سيتكرّر مجدّداً، لأنّ “حزب الله” مصابٌ بالوهن ولا يملك القدرة على المواجهة المباشرة، ولا يستطيع تحمّل خسارة الحكومة الآن وهو يرى تلويحَ شريكه جبران باسيل بالخيارات الأخرى على المستوى المالي والسياسي، لا سيّما إعلانه ضرورة اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، ما قد يعيد خلط الأوراق عند تشكيل أيّ حكومة جديدة.
يواجه “حزب الله” مزيداً من الخيارات الصعبة التي سيكون أحلاها مُـرّاً، فإذا مرّ التمديد لبعاصيري وجرى إقصاء صفا، فستكون هزيمةً له على الملأ، وإذا رفض وحصل العكس، فسيكون السيناريو نفسه الذي استبعده السيد حسن نصرالله عندما كان يبرّر عدم التحرّك لمنع إطلاق سراح الفاخوري بالصدام الداخلي والخارجي.. فهل يدرك الحزبُ أنّه حان وقت التواضع، أم أنّه سيمضي في طريق المغامرات حتى النهاية؟!