عشر سنوات مرّت على انعطافة وليد جنبلاط السياسية الكبرى، وأدت إلى انفراط عقد تحالف قوى الرابع عشر من آذار. عشر سنوات، وهناك رواية لم تُروَ عن السبب الذي دفع أحد أبرز قادة ثورة الأرز إلى الانكفاء، وتفضيله الركون هادئاً في الوسط، بدلاً من سياسة الأحلاف. حُمّل وليد جنبلاط، مسؤولية إنهاء التحالف، واتُهم بالتخاذل، بالجبن، بالتراجع، بالخوف. حتّى سرت كل هذه الإتهامات وكأنّها جزءًا من المسلّمات، بينما البعض الرحيم ذهب ليعتبر أنّ جنبلاط براغماتي وأراد حماية مصالحه ومهادنة حزب الله الذي هاجم بيروت والجبل، ولا بدّ من تخفيف التوتر معه لمنع التصادم الدامي والمكلف.
معظم القراءات لم تقدّم نظرة سياسية لما جرى. وجانبت الكثير من التفاصيل والطموحات التي ارتأت أنّ تحميل جنبلاط وحده المسؤولية يناسبها ويلائم طموحاتها. الخلاصة المبسّطة لرؤيته حينها أن ما يجري يهدف إلى تخريب البيت السنّي، وضمناً اتفاق الطائف. وهناك من رأى بعينيه وقوف المجتمع الدولي ومن كانوا حلفاء لثورة الأرز، بموقف المتفرّجين على ما يجري، وصولاً إلى اتفاق الدوحة الذي مثّل الطعنة الأولى للطائف، ومهّد لتكريس أعراف وسوابق أسّست لاستكمال الانقلاب العملي على الطائف.
إقرأ أيضاً: هكذا نعيد أهل السُنّة إلى المعادلة الوطنية
لم يكن لاتفاق الدوحة أن يعقد بدون غطاء دولي، الغطاء الذي رُفع عن قوى 14 آذار وأحزابها، فتعرّت مكوّناتها، ليُستكمل الانقلاب الكبير الذي كان بدأ في 2005 تنفيذه، عبر اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ما قبل أحداث 7 أيار 2008، حصل مؤتمر “سان كلو” في فرنسا، وهناك مرّر الفرنسيون اقتراحاً بحلّ الأزمة السياسية باللجوء إلى المثالثة، لإرضاء حزب الله و”طمأنته”. عندها استشعر جنبلاط الخطر، خاصة أن الطرح يأتي من الفرنسيين، الذين يعتبرون رعاة الصيغة اللبنانية، وجاء بعد طرح “سان كلو” انفتاح فرنسا على بشار الأسد. انفتاح أريد تكريسه عربياً بعد اتفاق الدوحة، وبعد انتخابات العام 2009.
ما بعد الانتخابات في 2009، كان الرئيس سعد الحريري مصرّاً ومتحمساً ليترأس الحكومة بنفسه. وهنا يروي السفير السابق عبد العزيز خوجة في كتابه، أنّ الحريري ناقش الأمر مع الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله، الذي نصح سعد بالتريّث والبقاء خارج الحكومة لأن ذلك سيكلّفه تنازلات كبيرة، وخسارات أكبر. ولا يمكنه تشكيل حكومة بدون التواصل بشكل مباشر أو غير مباشر مع بشار الأسد. أصرّ سعد على مطلبه وطموحه، وكانت له الموافقة السعودية. فجاءت فرصة تكريس المصالحة بين بشار الأسد والعرب، والتي أسّست لكوارث أكبر في البيئتين العربية والسنية.
إستشرف جنبلاط الأحداث من رغبة الحريري الذي كان يقدّم نفسه كضامن لموقف جنبلاط وسمير جعجع، حتى بدون أيّ تشاور معهما. جعجع لم يتبلّغ بذهاب الحريري إلى دمشق ونيته بمصالحة الأسد وفتح صفحة جديدة إلا من خلال وسائل الإعلام. وجنبلاط كان قد استشعر ذلك، ووصلته المعلومات باكراً جداً، فلجأ إلى خياره متّجهاً نحو الوسط. كان يريد ترك 14 آذار بعد اتفاق الدوحة مباشرةً، لكنّه أجّل الخروج إلى ما بعد الانتخابات، وهو يعلم أن تلك الحقبة انتهت، وأنّ هناك نوعاً آخر من المواجهة السياسية، لن يكون ميزانه لمصلحة هذه القوى.
النتيجة التي استشرفها جنبلاط يومها، هي التي حصلت بإقالة حكومة الحريري في العام 2011، وخلاصتها الانقلاب الإيراني على أيّ تفاهم عربي، والإطاحة بـ”السين سين”، التي ارتكز فيها الملك عبد الله على مبدأ استعادة بشار الأسد من الحضن الإيراني. لكنّ الأسد خان، ونفّذ الانقلاب الإيراني في بيروت، ما أسهم بتوجيه ضربة قاسمة للسنّة، أسّست إلى مرحلة الضياع والخروج من المعادلة الوطنية، بسوء الإدارة والتلهّي بحسابات شخصية وضيقة كالتي أفضت إلى تسوية العام 2016.
معالم الانقلاب تستكمل ما بعد إخراج الحريري من معادلة التسوية. أعاد كرّة العام 2011 بمغادرته لبنان، وكأنّ علاقته بالسياسة تنحصر بموقع رئاسة الحكومة. طائفة تمثّل الأكثرية الاعتدالية في لبنان، وترتبط جذرياً وعميقاً بالدولة ومؤسساتها، أصبحت مغبونة، ترى في الدولة خصماً لها، وليس لها أيّ مقدّرات للبقاء من خارجها. مشروع تخريب البيت السني لا يقتصر على لبنان، إنّما مثّل تغيير وجه المنطقة منذ ما بعد العام 2001، بعد عملية 11 أيلول في نيويورك.
عودة السُنّة إلى المعادلة الوطنية لم تعد ممكنة بالرهان على المحكمة الدولية، على الرغم من أهميتها وقدسيتها
هناك من يريد إرساء حقبة جديدة من مراحل الانقلاب اللبناني على السنّة، ليس بالاستهداف السياسي وبالاغتيالات، إنّما بالاستهداف المؤسساتي المتتالي والمتدحرج باستمرار. والهدف هو تكريس حقبة عونية حزب اللهية لسنوات مديدة، كما كان الحال تماماً ما بعد اتفاق الطائف، بالنسبة إلى الحريرية والحريري الأب… وهنا المسؤولية ستبقى ملقاة على عاتق الحريري الإبن، الذي ضحّى بكل ما ملكت أيمانه، في سبيل إرضاء “المسيحيين” الذين أجحف الطائف بحقّهم على ما راح يقول في مجالسه الخاصّة. وهو طبعاً يقصد ميشال عون والتيار الوطني الحرّ. الردّ عليه يأتي على لسان عون مجدداً، بأنّه لن يُترك أثر للحريري أو الحريرية بأيّ موظف في المواقع السنية الأساسية، وهذا ما بدأت تلاويحه في الاتجاه لتعيين نواب حاكم مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف وهيئة الأسواق المالية وسيسري على غيرها من المؤسسات والإدارات.
عودة السُنّة إلى المعادلة الوطنية لم تعد ممكنة بالرهان على المحكمة الدولية، على الرغم من أهميتها وقدسيتها. لكنّها بالمعنى السياسي الموضوعي أصبحت خارج الحساب بسبب أخطاء الإدارة ذاتها وسوء التصرّف من قبل وليّ الدم، وإدخالها في حسابات دولية وإقليمية. ومن سيستثمر سياسياً في نتائجها هم الأميركيون، على طريق مضيهم في تشديد العقوبات على إيران وحلفائها.
والعودة حكماً لا يمكن لها أن ترتكز على خطاب “مذهبي أو فئوي” على غرار ما فعله رؤساء الحكومات السابقين الذين أدانوا عجزهم بأنفسهم، في بيانهم، فخرجوا متأخّرين ببيانهم للدفاع عن بعض المواقع والتعيينات، بينما لبنان بكامله في مواجهة أزمة خطرة. وثانياً، مجال انتقادهم للحكومة كان أوسع بكثير فضيّقوه، بحصره بموظف لا غير.
ويبقى الأساس هو ضرورة العودة إلى المعادلة الوطنية، التي تتجسّد في الخروج عن التقليد الذي بلغ مرحلة الرطانة في صفوف الزعامات التقليدية وآلية تعاطيها، وابتداع آلية جديدة لمخاطبة الناس والجمهور، تؤسّس لمشروع أبعد من الطائفة، ويكون على قدر مسؤولية مواجهة المشروع الأكبر المتقدّم في المنطقة كلها، ينطلق من مواجهة مشروع الأقليات وتحالفاتها.