لدى الحكومة سبب “سياسي” دفعها إلى الضغط على مصرف لبنان والبنوك “لتحرير” أموال صغار المودعين. لكنّ الهيكل الذي وضعه مصرف لبنان للعملية يقول بوضوح إنّ تحويل الحسابات الدولارية إلى ليرات تفقد قيمتها، هو أقصى ما يمكن تقديمه للعملاء، مهما صغرت أرقام حساباتهم: لا دولارات بعد اليوم.
إقرأ أيضاً: 2.3 مليار دولار من “المركزي” للمصارف: عملية دفترية تأخّرت كثيراً
على الورق، حلّت الحكومة، من خلال تعميم مصرف لبنان 148 و149، مشكلة 1.7 مليون حساب مصرفي، ليس فيها أكثر من 750 مليون دولار، بالليرة والدولار، وتفترض أنّ هذه الحسابات لأصحاب الدخل المحدود. وهذا افتراض قد لا تثبت دقّته تماماً، إما لأنّ أصحاب الحسابات الصغيرة صفّروا حساباتهم بالفعل على مدار الأشهر الماضية، وإما لأنّ كثيراً من هذه الحسابات مهمل أو منسيّ، وليس بالضرورة أن يكون أصحابها من محدودي الدخل.
وبغضّ النظر عن مدى دقّة التقديرات، فإنّ في الأمر منطقاً سائغاً، إذ لا يُعقل أن تقدّم الحكومة مساعدات نقدية للأسر الأكثر حاجة لمواجهة أزمة كورونا، ولا تجد سبيلاً لتحرير حسابات صغيرة أو متناهية الصغر.
البعد الأخطر في هيكل هذه العملية هو إلزام العميل بتحويل حسابه من الدولار إلى الليرة. وهذا يعني ضمناً توقف البنوك عن الدفع بالدولار، وقد يشكّل الأمر سابقة للقياس عليها في التعامل مع 120 مليار دولار من الودائع. فإذا كانت البنوك تعجز عن دفع وديعة بألف أو ألفي دولار، فكيف تدفع وديعة بمئات الآلاف؟
لكن في حسابات مصرف لبنان، يجب أن يمرّ الأمر من دون تكلفة على احتياطاته واحتياطات البنوك بالعملة الأجنبية. لذلك كان لا بدّ من مساومة تقوم على مبدأ بسيط: “نعطيكم المزيد من الليرات، مقابل تنازلكم عن القبض بالدولار”. في الواقع، سيشتري مصرف لبنان دولارات من البنوك، بالمقدار نفسه الذي سيسحبه العملاء، وسيعطيها كمّاً من الليرات يعادل ما ستدفعه البنوك للعملاء. هكذا لا خسارة على البنوك من العملية. بل ستشطب في المحصّلة النهائية قدراً متساوياً من الموجودات والمطلوبات.
وفي ما يتعلّق بمصرف لبنان، تتيح هذه المساومة عدم استنزاف احتياطيات العملة الصعبة بشكل مباشر، لكنها ستؤدي إلى ضخّ كتلة نقدية بالليرة اللبنانية، قد تتراوح بين 1500 و2200 مليار ليرة، ما يعني حتماً المزيد من الطلب على الدولار في السوق الموازية. وهذا سيقود إلى موجة إضافية من التضخّم المتزامن مع الركود الاقتصادي، ليعمّق الركود التضخّمي، ويفاقم الضغوط على قيمة الليرة.
على أنّ البعد الأخطر في هيكل هذه العملية هو إلزام العميل بتحويل حسابه من الدولار إلى الليرة. وهذا يعني ضمناً توقف البنوك عن الدفع بالدولار، وقد يشكّل الأمر سابقة للقياس عليها في التعامل مع 120 مليار دولار من الودائع. فإذا كانت البنوك تعجز عن دفع وديعة بألف أو ألفي دولار، فكيف تدفع وديعة بمئات الآلاف؟
ويبقى المغزى الرمزي لهذه العملية برمّتها هو إخراج صغار المودعين والكَسَبة من النظام المالي بكامله، خلافاً لكلّ النظريات والأدبيات الداعية إلى الشمول المالي، أيّ إلى إدخال المزيد من الناس في النظام المصرفي. يرمز ذلك إلى إعلان النظام عجزه ورغبته بالتحلّل من أثقال الفقراء الذين لا يأتي منهم سوى الإزعاج والازدحام، وربما التظاهر وتحطيم الواجهات. وإلاّ ما معنى أن يشترط تعميم مصرف لبنان سحب كامل المبلغ، للاستفادة من أحكامه؟
بل فوق ذلك، يعلن النظام المالي في البلاد إقراره بفقدان الوظيفة (dysfunctional) في الاقتصاد وفي حياة الناس، ولا يبقى للناس خيار إلاّ التحوّل إلى الاقتصاد الورقي. وما ذلك إلاّ من واقع الفشل في التصدّي لمهمة إصلاح القطاع وغربلته.
سوق الصرف
الجانب الآخر المهمّ في التعميمين هو دخول مصرف لبنان المباشر في سوق الصرّافين، من خلال إنشاء وحدة تابعة لمصرف لبنان للتداول بالعملات النقدية الأجنبية “وفق سعر السوق”، في محاولة، على ما يبدو، لإحكام القبضة على سعر الصرف. اللافت هنا هو الاعتراف بمصطلح جديد في سوق الصرف اسمه “سعر السوق”، كبديل عن مصطلح “سعر الصرّافين”، الذي تمّ تداوله في بعض الأوراق والمحاضر الرسمية.
ستكون الأسابيع المقبلة اختباراً صعباً، فإن لم يتمكّن مصرف لبنان من ضبط “سعر السوق”، سيتحمّل مسؤولية ارتفاع الدولار، وسيصبح تحت الضغط لوقف مهزلة التفاوت الهائل بين سعرين يعرف بهما معاً
دخول مصرف لبنان في عمليات سوق الصرّافين له مفاعيل خطيرة، ليس فقط لأنه يُسقط كلّ ما قاله حاكم مصرف لبنان رياض سلامة سابقاً، من أنّ مصرف لبنان لا يخزّن (ورق) النقد الأجنبي ولا يتعاطى به. بل إنّه يعطي لـ”سعر السوق” مشروعية تنسف مصداقية السعر الرسمي.
أما لماذا يتمسّك مصرف لبنان بسعر الصرف الرسمي، فلذلك مبرّران:
1. عدم إحداث صدمة في الحسابات الدفترية لموجودات البنوك ومطلوباتها، تؤدّي إلى إفلاس معظمها، إذ إنّ المراكز المالية للقطاع المصرفي مبنيّة على سعر الصرف الرسمي الوهمي، ويجب أن تبقى كذلك إلى حين الشروع بورشة إعادة هيكلة القطاع.
2. توفير دعم غير مباشر لأسعار السلع الاستراتيجية المستوردة، من طحين وأدوية وبنزين.
ومهما تكن مبرّرات الازدواجية، فإنّ انخراط مصرف لبنان في سوق الصرافة سيجعله على خطّ الجبهة الأمامي، فإما أن يحمل على عاتقه استقرار السوق، وإما أن يأخذ في صدره وفي ماء وجهه الضغوط المقبلة على الليرة. فصعود الدولار على منصّة رسمية يرعاها مصرف لبنان له تبعات مختلفة عن كلّ ما مرّ في الأشهر الفائتة.
ستكون الأسابيع المقبلة اختباراً صعباً، فإن لم يتمكّن مصرف لبنان من ضبط “سعر السوق”، سيتحمّل مسؤولية ارتفاع الدولار، وسيصبح تحت الضغط لوقف مهزلة التفاوت الهائل بين سعرين يعرف بهما معاً.
والأخطر أن تفشل المنصّة بالإمساك بالسوق، فينشأ سوق موازٍ لها، فيصبح سعرها سعراً رسمياً رديفاً يقابله سعر آخر في السوق الموازية، ليصبح في السوق ثلاثة أسعار أو أربعة، وتُلقى اللائمة على المضاربين، كما في كلّ الأنظمة الشمولية.
قد تكون منصّة مصرف لبنان هي الالتفاف الأخير لإنقاذ وهم اسمه “سعر الصرف الرسمي”، فيما هو منخرط في ألف حيلة للالتفاف عليه. قد يسقط هذا الالتفاف وتسقط معه أشياء كثيرة.